&جاسم بودي&

أقسم بالله العظيم إنني ضد التطرف الديني، وأزعم أنني تحدّثت في هذا الإطار أكثر مما تحدث آخرون، وأقر بأن ما كتبته عن كل الحركات السنيّة والشيعية التي اتخذت من الدين غطاء لأهداف سياسية أساءت إلى جوهر الشريعة إنما هو نابع من كوني أعتبر نفسي في صلب العقيدة السمحاء... وليس خارجها.

ولكن، ومن باب الشفافية، وإيماناً منا بأن الليبرالية نظام عام لا يتجزأ، لا بد من الاعتراف بأن التطرف ليس مقتصراً على التيارات الدينية بل تمدّد إلى التيارات الليبرالية والعلمانية التي بات بعضها يلعب دور المغذي للتشدد بقصد أو بغيره.

الكلام عنوانه ربما التظاهرة التي دعا إليها ناشطون ومثقفون في القاهرة لخلع الحجاب، أما تفاصيله فكثيرة تمتد إلى «الدعاة الجدد» الذين يخلطون بين الاجتهاد وبين ضرب العقيدة... وصولاً إلى تحركات ودعوات للتعبير عن الحريات الإنسانية المطلقة بما فيها عرض الجسد تماهياً مع حركات أوروبية مماثلة في ستينيات القرن الماضي.

تجادل الناشطة الليبرالية لساعات في حقها بعدم ارتداء الحجاب، وتجتهد في استحضار وقائع وإثباتات على أن الحجاب ليس من صُلب العقيدة بل كانت له ظروفه التاريخية، وأن إظهار الشعر لا يُعد بأي مجال من المجالات خرقاً للحشمة في عصرنا الراهن أو مدعاة إثارة غرائز... لكنني لا أفهم كيف ترفض حق شقيقتها المسلمة في ارتداء الحجاب عن قناعة، ولا كيف يتعاطى العلمانيون مع قضية متعلقة بصلب معتقداتهم الفكرية قبل أن أقول دينية أو غير دينية، أي أنهم يشعلون الدنيا ضجيجاً حين يتعلق الأمر بحقوقهم المدنية ويعتبرون أنهم عُرضة لاضطهاد ديني أو سياسي في حين أنهم يستنكرون على أهلهم في الدين حقوقهم.

إنه زمن انفصام شخصية بامتياز يعيشه بعض الليبراليين والعلمانيين، لا بل إذا سمعت رموزهم يتحدثون ويحاضرون تضع يدك على قلبك خوفاً على الأمن والاستقرار والوحدة المجتمعية، خصوصاً حين يقولون إنهم لوكانوا في السلطة والحكم مثلاً لفرضوا عقوبات على الملتزمين دينياً أو غيّروا القوانين لتصبح مثل القوانين التي تفرضها دول أوروبية اليوم بحيث تمنع أي مظاهر تدل على الانتماء الإسلامي مثل الحجاب أو قلادة تحمل آيات قرآنية... كلام يذكّرك بمدارس الإلحاد التي جهد الاتحاد السوفياتي السابق لتعميمها لكنها بعد مرور نصف قرن على تأسيسها تبيّن أنها شوّهت وعطّلت و شوّشت لكنها لم تنجح في خلق أجيال رافضة لدينها وعقيدتها.

عندما حصلت تفجيرات 11 سبتمبر، قليلون فقط أدركوا أن الضربة تجاوزت برجي التجارة إلى المسلمين وعقيدتهم ومكانتهم ونظرة العالم إليهم. وإذا كانت دول كثيرة اعتمدت الأسلوب الأمني في التعاطي مع المسلمين وتحركاتهم فإن دولاً أخرى تقف على رأس الليبرالية والعلمانية اعتمدت سلاحاً أخطر من الأمن يضرب مبادئها التي تتشدق بها قبل أن يضرب الآخرين. «غزت» هذه الدول الحقوق الشخصية للمسلمين مثل الزي والسلوك وحرية العبادة ولا ينقصها سوى أن تضعهم في «مناطق عزل» تحدد أماكن إقامتهم والوظائف التي يمكن أن يعملوا بها كما كان يحصل مع أتباع الديانات غير المسيحية في أوروبا قبل قرنين من الزمن، ومع ذلك... لم تحصد هذه السياسة سوى المزيد من التطرف، والدليل الجرائم التي تُرتكب كل فترة هناك باسم الدين وأبطالها للأسف الشديد مسلمون.

نعود إلى عربنا، إلى ربعنا، إلى الليبراليين منهم الذين نعلّق عليهم آمالاً في ترسيخ ثقافة الوسطية والانفتاح وتقبل الآخر وحقوق الإنسان والحريات... نجد أن بعضهم يعتمد لغة خشبية تتجانس مع لغة المتطرفين الدينيين. إن فتحت لهم مكبرات الصوت على الهواء أساؤوا إلى العقيدة باسم حرية الرأي متناسين أن أسيادهم الفلاسفة العظام في العالم الذين وضعوا هذه الشرائع الحرة قننوها بعدم الإساءة إلى الآخرين، وإن تسلّموا السلطة أو جزءاً منها أغلقوا أبواب المشاركة نهائياً أمام تيارات محافظة بل حتى أبواب الحوار، وإن سيطروا على أجهزة الإعلام حوّلوها منابر خاصة بهم وبمن يمدحهم أو يسير في خطهم ولحسوا كل كلامهم عن حرية الآخرين في إبداء الرأي.

يبدو، والله أعلم، أن التطرف متجذر في هذه المنطقة، وهذا الموضوع حقيقة يحتاج الى أبحاث ودراسات مركزة، ومن دون الخوض في تفاصيل كثيرة. تكفي مراقبة سلوكيات أرباب سلطة علمانيين مع شعوبهم ومع مخالفيهم في الرأي، وأرباب سلطة دينيين مع شعوبهم ومع مخالفيهم في الرأي، وأرباب نضال وجهاد ومعارضة إسلاميين وغير اسلاميين مع محيطهم الاجتماعي ومع جماعات النظام ومع مخالفيهم في الرأي، وأرباب سلطة محتلين للأرض باسم الحق اليهودي... بل تصدمك اعترافات رموز بعض الأحزاب المسيحية في حرب لبنان عن حجم التطرف الذي قاموا به.

هل التطرف من فطرة هذه المنطقة أو هو فطرة إنسانية عامة بحيث يعود لها المرء كلما انفلت من عِقال القيم والقوانين؟ أيضاً سؤال للبحث والدراسة، لكن ما نراه الآن يتجاوز التطرف إلى الجنون، فما يفعله «مجانين السنّة» و«مجانين الشيعة» ضد بعضهم وضد محيطهم لم يعد مجرد تطرف، ولذلك فإن جنوح بعض الليبراليين إلى دعوات وتظاهرات نزع الحجاب ودعم حرية التعبير عبر التمرد بالأجساد المكشوفة والتفرغ لتصفية «حسابات» مع الخلفاء والصحابة وحافظي الحديث لهو أكثر من التطرف. وإذا دخل الليبراليون العرب ميدان الجنون أيضاً فعلى ميادين التعقل والوسطية والاستقرار والتقدم... السلام.


&