توفيق المديني

&
بعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف مراكز سيادية للدولة التونسية في قلب العاصمة، قال الرئيس الباجي قائد السبسي في خطاب توجه به إلى التونسيين عبر التلفزيون الرسمي يوم 18مارس 2015:«إننا في حرب مع الإرهاب وأن هذه الأقليات الوحشية لا تخيفنا وسنقاومها إلى آخر رمق بلا شفقة وبلا رحمة». وأضاف «هذه الأقليات الوحشية سننتصر عليهم (..) هؤلاء الخونة سيقع القضاء عليهم».وشكل ذلك الهجوم الإرهابي فرصة للمجتمع المدني و للمجتمع السياسي ، لكي يركزا على موضوع الوحدة الوطنية من أجل تجنيد طاقات كل الشعب التونسي ، ومؤسسات الدولة ، في سبيل خوض الحرب ضد الإرهاب .
إن خوض الحرب على الإرهاب يتطلب من الدولة التونسية بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، اتخاذ القرار باستئصال الإرهاب عن طريق تعبئة كل الطاقات الوطنية، والرفع من أداء القوات المسلحة الأمنية والعسكرية ،وتطوير الأدوات الاستخباراتية والاستعلامية ،وتحييد المساجد ،ومحاصرة البؤر الإرهابية، وتكثيف المراقبة الحدودية، وتمتين التعاون الإقليمي والدولي ،والرفع من مستوى تجهيزات القوات المسلحة، والتسريع بالمصادقة على قانون الإرهاب وتفعيله ،والإحاطة بعائلات شهداء الأمن والجيش، والعمل على تمتين الجبهة الداخلية عن طريق الحوار والتفاعل الإيجابي ونبذ التجاذبات السلبية مهما كان مصدرها و مأتاها ،وحث الإدارة التونسية على مزيد الجدوى و الفاعلية في التقدم بإنجاز الخطط التنموية والمشاريع المعطلة ،ومقاومة التهريب والفساد والاحتكار لتوفير المزيد من مَواطن الشغل والنهوض بالجهات المحرومة وخصوصا بالمناطق الحدودية.
في نطاق العمل من أجل إقرار قانون الإرهاب الجديد من قبل مجلس النواب ، لا يزال مشروع قانون زجر الاعتداءات على قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة العسكرية الذي عرضته الحكومة على مجلس نواب الشعب الأسبوع الماضي محل جدل واسع ونقاش داخل الأوساط الإعلامية والحقوقية ونشطاء سياسيين ومنظمات وطنية..
هناك إجماع حقيقي في تونس ، أن مشروع القانون الجديد يتضمن أحكاماً تهدد مكاسب حرية التعبير والإعلام وتمنح صلاحيات واسعة وسلطة تقديرية للأمنيين ووزارة الداخلية باسم حماية الأمن الوطني وأعوان الأمن.. وهذا الوضع خلق جبهة عريضة تتكون من منظمات المجتمع المدني و الأحزاب السياسية ترفض مشروع هذا القانون الجديد ، باعتباره يتناقض جذريا مع أهداف الثورة التونسية في تكريس الحرية بكل أبعادها ، و بناء الدولة الديمقراطية التعددية، و القطع النهائي مع الدولة البوليسية.


إن الحرب على الإرهاب تقتضي دعم جهود الإصلاح الوطني المبذولة من قبل القوى السياسية التونسية المؤمنة ببناء الدولة الديمقراطية التعددية،و تشجيع إصلاح القطاع الأمني سياسياً،ومالياً وتقنياً،أي تحقيق الإصلاح الهيكلي لوزارة الداخلية ،خصوصاً من خلال إنشاء قوات أمن محترفة وتجنب تسييس إدارة هذه القوات ،وتوسيع المشاركة السياسية والتعددية، وتحقيق التنمية المستدامة، والتوصل إلى توازن اجتماعي وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني بغية التصدي للظروف التي تعزز العنف والتطرف. كما تقتضي الحرب على الإرهاب أيضاً متابعة الجهود لإنشاء جهاز مخابرات وطني ودمج أجهزة المخابرات ووحدات مكافحة الإرهاب فيه، لكي تعمل تحت سقف قيم الجمهورية العلمانية، والقضاء على كل الأجهزة الأمنية الموازية المتحالفة مع الإرهابيين.
وتأسيساً على هذا كله، فإن الكثير من الديمقراطيين التونسيين، وغالبية مكونات المجتمع المدني ، إضافة إلى الأحزاب الديمقراطية ، ترفض الوقوع في شباك قانون محاربة الإرهاب، لأنه يعبد الطريق لعودة الدولة البوليسية التونسية ،التي تلبس شكلياً، زي الديمقراطية« .فقد أثبتت التطورات أن الهدف من وراء إقرار مشروع قانون زجر الاعتداءات على قوات الأمن الداخلي والقوات المسلحة العسكرية ، كَم ِّالأفواه حتى لا يتم نقد موضوع خصخصة الدولة التونسية الجاري على قدم وساق، بوصفها تنسجم كلياً مع وثنية العولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة ، التي تشكل منذ إنشائها، نظاماً رأسمالياً عالمياً مترابطاً بنيوياً يتسم باستقطابات واضحة، ويسعى إلى التراكم الرأسمالي المتعاظم، لا تكافؤ التطور في ظل الصراع والتنافس، ويختزل الحرية في جانب واحد يتمثل في الحرية الاقتصادية التي تشترط مسبقاً التزاماً صارماً بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتمارس تشييء العلاقات البشرية مثل السلعة والمال والرأسمال، والنهب، والاستغلال للشعب التونسي و باقي الشعوب العربية ، وتحصر الليبرالية في مستنقع الوضعانية، مفسحة في المجال لهيمنة التيارات اللاعقلانية والظلامية في مراكز النظام الرأسمالي حيث النازية والفاشية البربرية الأميركية أشد صورها قتامة وفظاظة، وعودة الدولة التسلطية البوليسية في تونس وباقي البلدان العربية ، التي تقوم على الأسس التالية :
1-احتكار مصادر القوة والسلطة و الثروة في المجتمع، وذلك عبر اختراق المجتمع المدني بمعناه الواسع، إذ تتحول أحزاب ومؤسسات المجتمع المدني إلى امتداد لسلطة الدولة البوليسية ملحقة بها كتضامنيات مهنية أو قبلية أو مناطقية .
2-قيام شرعية السلطة على قوة البطش العاري، من خلال ممارسة الدولة البوليسية الإرهاب المنظم ضد المواطنين، لا على شرعية المثلث الجدلي أو »الثالوث المقدس« : الوطن والقانون والحرية.
3-ممارسة سياسـة الاسـتبعاد والإقصاء للمعارضة التي شملت آثارها المدمرة المجال السياسي، في ظل سيادة دولة المخابرات - بوصفها مخلوقا استبداداً بيروقراطياً ضخماً – التي تستمد استقرارها من الخوف لا من الشرعية، والتي لا تعترف بأن السياسة هي مشاركة إيجابية من جانب الشعب في الشأن العام، وهي حق من حقوق الإنسان والمواطن، وإنما تعترف بأن السياسة هي حكر منذئذ فصاعداً على الدولة البوليسية، ولا شيء غيرها.
ومع حرية الاقتصاد العشوائي، وغير المنظم، وظهور أوساط رجال الأعمال الفاسدين الذين شكلوا صلة الوصل بين القطاع الخاص والسلطة، والخصخصة الشاملة التي حظيت بتأييد حكومة الصيد ، كان الانتقال لتونس نحو الديمقراطية، وبالتالي نحو »الليبرالية السياسية« يدخل في تناقض تاريخي مع عملية الانتقال إلى الحرية الاقتصادية، حيث أن هذه الأخيرة عقيمة من دون الحرية السياسية.
ويمكن توضيح ذلك بأن الحكومة الحالية في تونس تواجه معضلة عويصة، إذا ما خضعت بالكامل لشروط المؤسسات الدولية المانحة ،فإن هذه العملية بالذات ستزيد في حدة الضغط الاجتماعي للطبقات الفقيرة، والمطرودين من المجتمع، إلى درجة أنها تهدد النظام السياسي كله. من هنا، فإن موقف حكومة الصيد يميل إلى إدارة دفة الحكم من خلال تعزيز الطابع القمعي البوليسي للسلطة.ولهذا تفضل أوساط البرجوازية الجديدة من رجال الأعمال و الأحزاب الأربعة المشاركة في الحكم أن تكون الديمقراطية المطبقة في تونس ديمقراطية نخبوية، ومحكومة بحالة الاستبداد البوليسي الذي يضيق المجال السياسي للمجتمع، ويضعه في قبضة النخبة الحاكمة والمسيطرة على السلطة، ومن غير أن يفسح في المجال لسيادة القانون أو العقلانية، لتأتي منسجمة مع حدود الهوية القمعية والشمولية للدولة البوليسية التي تقوم بمصادرة حق المعارضة في العمل السياسي بمحض الإرادة والحرية، ولا تعترف بأن حق السلطة مُساوٍ لحق المعارضة.
&