عرفان نظام الدين

تعددت الروايات والتحليلات في شأن تصاعد حالات التطرّف في الدول العربية وامتدادها إلى معظم دول العالم، والنتيجة واحدة، وهي: غموض وحيرة وتفسيرات وتبريرات لا أول لها ولا آخر، مع طرح أسئلة مشروعة وتساؤلات حائرة عن أسبابها وخلفياتها وألغازها التي لا تطاول «داعش» واحداً، أي ما يسمى بـ «تنظيم الدولة الإسلامية»، بل كل «الدواعش» الذين يمارسون أعمال العنف والإرهاب.

&

ولا نكتشف جديداً إذا قلنا أن التساؤلات ذاتها تحمل في طياتها الأجوبة المفسرة عندما نتمعن في معانيها ومحتواها. فهي تربط بين حلقات الحوادث في سلسلة واحدة تشكل في مجموعها بانوراما كاملة وواضحة لمجريات تاريخ المنطقة وخلفيات العوامل الداخلية والخارجية والدينية وأبعادها، مع تشابك وتقاطع أهداف المصالح والمطامع والصراعات ورغبات الهيمنة والتوسع وشهوة السلطة والتفرد وثقافة العنف والفساد، إضافة إلى دور الأصابع الصهيونية في صب الزيت على النار.

&

«داعش» وغيره من «الدواعش» لم يهبطا علينا بالمظلات ولم يحققا ما حققاه بالمصادفة، بل إن المفاجأة تكمن في عدم توقع هذه الهجمة والاستعداد لمواجهتها. فكل المعلومات تؤكد أن الأرض كانت مهيأة لها، وأن جهات عدة حذرت من أن وراء الأكمة ما وراءها وأن «داعش» يعد العدة لغزو شمال العراق بعد هيمنتها على معظم شمال سورية. وهناك من حذّر رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قبل ٦ أشهر من خطة احتلال الموصل أولاً، لكنه لم يحرك ساكناً. وتكرر التحذير قبل ثلاثة أيام من الغزو من دون جدوى، وكان الرد بالانسحاب المهين للقوات العراقية.

&

والمعروف أن المناطق التي سيطر عليها «داعش» هي سنية في غالبيتها مع مكونات أساسية مسيحية وأيزيدية وكردية كانت تتعايش وتنعم بالأمن والأمان والمحبة بأكثر من ١٤ قرناً فجاء المتطرفون ليمعنوا فيها اضطهاداً وقتلاً وتهجيراً وسبياً، ما أدى إلى زيادة النقمة وتأجيج نار الفتن مع أن المسلمين السنة طاولهم ما طاول الآخرين من قمع وإرهاب. وزاد الإمعان في الممارسات الخاطئة والمنفرة من تأليب الرأي العام العالمي بعد إضافة جريمة تدمير حضارات تعود إلى آلاف السنين.

&

هنا تطرح الأسئلة، وهي كثيرة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

&

- هل المطلوب من هذه الفئات قتل البشر ومحو الذاكرة وإعادة العرب والمسلمين إلى عصور الجاهلية وعهود الظلم والظلام؟ وهل الهدف هو تشويه صورة الإسلام، دين السلام والمحبة والتسامح وتحقيق أهداف الحاقدين والأعداء وأصحاب نظريات «الإسلاموفوبيا» وغيرها؟

&

- هل نبت «داعش» من العدم، أم أنه جاء ضمن مخطط خبيث في شكل مدروس لتحقيق المآرب المغرضة وتفتيت الدول العربية وإثارة الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية؟ وأين كانت أجهزة الاستخبارات الأجنبية والعربية عندما كان الإرهابيون يستعدون لغزواتهم، وهي التي كانت تدعي أنها تعرف ماذا يفعل المواطن في بيته؟ ألم تنجح هذه الحركات في تأليب العالم ضد المسلمين وإفساح المجال للطامعين للهيمنة على مقدرات العرب وإطلاق يد إسرائيل في العربدة في فلسطين المحتلة؟

&

ومن يتابع الحوادث والتطورات منذ ظهور «داعش» يدرك جيداً حجم التخطيط ودقة التنظيم، من تأمين التمويل والتموين إلى السطو على المصارف والسيطرة على حقول النفط وتأمين تسويقه وبيعه إلى جهات داخلية متحاربة وإلى دول أجنبية، وفرض الخوات تحت مسميات مختلفة، من زكاة وجزية ومصادرة عقارات ودمغها بعلامات متعددة، إضافة إلى التزود بأحدث أنواع الأسلحة ووضع استراتيجية عسكرية متطورة في الهجوم والدفاع وزرع الألغام والمزاوجة بين الحرب التقليدية وحرب العصابات والسيارات المفخخة، مع السيطرة على مناطق مأهولة بالمدنيين، ويقدر عددهم بالملايين يُستخدمون دروعاً بشرية.

&

أما الترهيب، فحدث عنه ولا حرج، من خلال استعراضات طوابير الإعدام والموسيقى المرافقة لأجواء الرهبة وإلقاء المدنيين من الشرفات والذبح والرجم والتعذيب في مقابل ترغيب بإغراءات الرواتب وزواج النكاح والحوريات والسبايا، إضافة إلى غسل الأدمغة والزعم بأن ما يجري من أعمال منكرة هو جهاد وأن الهدف هو تطبيق الشريعة الإسلامية، وهي منهم براء. وحتى يكتمل المشهد، لابد من الاعتراف بالنجاح الإعلامي للتنظيم، بشهادة الخبراء، مؤكدين استعانته بخبرات فنية متمكنة.

&

- والسؤال الأهم، هو: من منا يصدق أن تحالفاً دولياً يضم أكثر من ثمانين دولة لم يتمكن بعد أكثر من ستة أشهر من القضاء على «داعش»، أو على الأقل تحجيمه وتقليص نفوذه وحصره في حدود ضيقة؟ مع الأخذ في الاعتبار أن عامل الوقت يعمل لمصلحة الإرهابيين وأهدافهم من إطالة أمد الحرب، فيما يتندر البعض من الأساليب المتبعة في شن الغارات والتباطؤ في الحسم.

&

- ومن هذا السؤال تنبثق أسئلة كثيرة عن سبب التركيز على المناطق الكردية والدعاية الجوفاء عن تحرير عين العرب (كوباني) بعد أشهر من القتال الضاري وكأنها نهاية المطاف، فيما الموصل وغيرها في العراق والرقة ودير الزُّور ترزح تحت سيطرة «الداعشيين»؟ وهل الهدف هو التمهيد للانفصال لإقامة دولة كردستان؟ وهل المطلوب ترك المناطق السنية بلا سند ضمن خطط تفتيت العراق وسورية؟

&

- والسؤال المحير الآخر هو: كيف جرى تسهيل وصول آلاف المقاتلين من شتى بقاع الأرض، وفق خطة محكمة في تجنيد المتطوعين خلال فترة زمنية مبرمجة؟ ومن سكت عنهم؟ ومن مولهم وجهزهم؟ ومن أعادهم في مهمات إرهابية إلى الدول العربية والأجنبية؟

&

لا أحد يريد أن يحل الألغاز ويجيب عن هذه الأسئلة، لكن أهم ما في هذه الظاهرة أنها أسقطت الأقنعة عن وجوه «داعشية» كثيرة في العالم. كما أنها أسقطت المزاعم التي سادت بعد زلزال تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن، والتي تدعي أن الإرهاب صناعة عربية، وسعودية تحديداً، وأن الدول العربية تشكل البيئة الحاضنة للإرهابيين، بينما تبين اليوم أن معظمهم جاءوا بالآلاف من الغرب، أوروبا وأميركا وكندا وحتى أستراليا، ومن البوسنة والشيشان والجمهوريات الآسيوية الإسلامية، أي أن معظمهم من غير العرب وبعضهم من الأجانب.

&

- كما أن سقوط هذه الأقنعة والنظريات أثار أسئلة أخرى عن الخطوات التمهيدية التي دأبت على إثارة موضوع «الإسلاموفوبيا» وتعميمه على العالم بأسره، وكان المقصود بالاستهداف هو «الإسلام السني»، وتحديداً المعتدلين السنة الذين يشكلون غالبية المسلمين في العالم، مع التركيز على بعض الدول، مثل السعودية، على رغم كل ما اتخذته من إجراءات لمحاربة الإرهاب.

&

والأمثلة كثيرة عن هذا الاستهداف المركز خلال العقدين المنصرمين، وخصوصاً في مصر المميزة بالتسامح والتعايش، والعراق الذي تعايشت فيه الأديان والمذاهب والأعراق مئات السنين، وسورية التي انتهجت منذ نصف قرن العلمانية، ولبنان حيث تواصلت التحركات الممنهجة لضرب الاعتدال السني وتحجيـــمه وإبراز بعض المـــظاهر المتــطرفة المعزولة وتضخيم أخطارها، وجرى ضرب الأنظمة والمعارضات بتسهيل صعود الإرهاب والتطرف عبر «داعش» وأخواته.

&

والتساؤلات كثيرة بالنسبة إلى العراق بالذات: لماذا وافق «داعش» على الخطوط الحمر التي وضعتها إيران، ولم تقرب منها ولا استهدفت أي مصلحة إيرانية على رغم مشاركة الحرس الثوري الإيراني في معارك تكريت وغيرها في ميادين المعارك؟ ولماذا لم تشارك الولايات المتحدة في الهجوم البري، ثم وافقت على شن غارات على مواقع «داعش»؟ وهل كان الهدف التنصل مما يرتكب من انتهاكات تقوم بها ميليشيات طائفية ضد أهالي المناطق السنية، وفق اعتراف معظم المسؤولين، والإعلان عن فتح تحقيق في شأنها لتقول أنها لم تشهد ولم تسمع ولم تشارك؟ والسؤال الأهم هو لماذا السكوت عن هذه الأعمال الانتقامية المشينة التي لا نتيجة لها سوى إشعال نار الفتنة المذهبية، ما دفع المرجع الأعلى في العراق الإمام السيستاني إلى تحريمها وتجريم ممارسيها والدعوة إلى وقفها فوراً وتضامن معه السيد مقتدى الصدر بينما طالب حيدر العبادي، رئيس الوزراء، بمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم.

&

هذه الوقائع تعيدنا إلى طرح السؤال الجوهري وهو: كيف نحارب الإرهاب «الداعشي» بإرهاب آخر؟ وكيف يهزم هذا الإرهاب بإثارة الحساسيات في المناطق التي كانت تعاني من «داعش»، فصارت تذبح بسكين «داعشية» أخرى، وكأن هناك من يدفع هؤلاء دفعاً نحو التطرّف وغالبيتهم من المدنيين العزل الذين لا حول لهم ولا قوة إلا بالله؟

&

هذه الأسئلة تضع النقاط على الحروف، على رغم الامتناع عن توفير ردود حاسمة في شأنها لأن النتيجة من تجاهل خطورتها واحدة: إرهاب وعنف وأهداف خبيثة عنوانها إثارة الفتن وتشويه صورة الإسلام وتفتيت الدول العربية.

&

ولا يمكن الخروج من هذه المِحنة بحلول جزئية وتجميلية، بل لا بد من حسم المواقف والبدء بحوار في العمق (إذا توافرت النوايا الحسنة؟!) تشارك فيه كل الدول العربية والإسلامية لنزع صواعق التفجير أولاً، وإيجاد قواسم مشتركة على أن يتوسع هذا الحوار ليشمل الدول الأجنبية، بهدف البحث عن حلول تبدأ بمحاربة الإرهاب والتطرف وإحلال السلام في المنطقة بإرغام إسرائيل على الرضوخ لقرارات الأمم المتحدة وإنهاء احتلالها الأراضي العربية، على رغم أن «داعش» لم ينفذ أي عملية ضد إسرائيل.

&

وأي تقصير أو إهمال أو تأخير سيؤدي حتماً إلى مزيد من العنف وإذكاء نيران لن يقتصر لهيبها على المنطقة، بل سيمتد إلى العالم بأسره. فهل يسارع من بيده الحل والربط إلى درء الأخطار قبل فوات الأوان؟ لا مؤشرات تبشر بالخير حتى هذه اللحظة، على رغم الإدراك بأن الإنقاذ ممكن إذا خلصت النوايا وتوافرت الإرادات... ولكن؟
&