&ترجمة: محمد وقيف
في 17 مارس 2011، مرر مجلس الأمن الدولي القرار 1973 الذي يرخص لتدخل عسكري في ليبيا، وذلك بهدف إنقاذ أرواح المحتجين السلميين المطالبين بالديمقراطية الذين وجدوا أنفسهم هدفاً لحملة قمع من قبل نظام الديكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي، مثلما أوضح ذلك الرئيس أوباما، الذي أشار إلى أن القذافي كان مستعداً لارتكاب مذبحة في بنغازي، المدينة الليبية التي شهدت انطلاق الانتفاضة. وقال الرئيس الأميركي: «لقد كنا نعلم أننا إذا انتظرنا يوماً واحداً إضافياً، فإن بنغازي يمكن أن تشهد ارتكاب مذبحة ستمتد تداعياتها عبر المنطقة، وستشكل وصمة في ضمير العالم». وبعد يومين على صدور الترخيص، أقامت الولايات المتحدة وبلدان أخرى من حلف «الناتو» منطقة حظر جوي فوق ليبيا وشرعت في قصف قوات القذافي. وبعد سبعة أشهر على ذلك، في أكتوبر 2011، سيطرت قوات الثوار على البلاد وقتلت القذافي بعد حملة عسكرية طويلة حظيت بدعم مستمر من الغرب.
الانتصار الموهوم
وبعيد الانتصار العسكري، بدا المسؤولون الأميركيون منتشين بالنتيجة. ففي مقال لهما بدورية «فورين أفيرز» في 2012، كتب المندوب الأميركي الدائم لدى «الناتو» وقتئذ «إيفو دالدر»، والقائد الأعلى للتحالف في أوروبا «جيمس ستافريديس» يقولان: «إن عملية الناتو في ليبيا تستحق أن توصف بالتدخل النموذجي». وفي حديقة البيت الأبيض، قال أوباما بعد مقتل القذافي: «لقد حققنا أهدافنا من دون أن نضطر لوضع فرد واحد من قواتنا المسلحة على الأرض». وبالفعل، بدا في لحظة من اللحظات أن الولايات المتحدة قد نجحت في تحقيق ثلاثة أشياء من خلال عمل واحد: دعم ما سمي «الربيع العربي»، وتفادي حدوث إبادة جماعية على غرار تلك التي وقعت في رواندا، والتخلص من ليبيا كمصدر ممكن للإرهاب.
غير أنه سرعان ما تبين أن هذا الحكم كان متسرعاً وسابقاً لأوانه. فمن خلال إلقاء نظرة إلى الوراء، يتضح أن تدخل أوباما كان فشلاً ذريعاً لأن ليبيا لم تخفق في أن تتطور إلى دولة ديمقراطية فحسب، وإنما تحولت إلى دولة فاشلة. وبدلاً من أن تساعد ليبيا الولايات المتحدة على مكافحة الإرهاب، على غرار ما فعله القذافي خلال عقده الأخير في السلطة، تحولت البلاد إلى ملاذ آمن للمليشيات التابعة لكل من «القاعدة» وتنظيم «داعش». كما قوّض التدخل في ليبيا مصالح أميركية أخرى، حيث أضر بهدف حظر الانتشار النووي، وتسبب في خسارة التعاون الروسي في مجلس الأمن الدولي، وأسهم في تأجيج الحرب الأهلية السورية.
عدم التدخل.. كان أفضل؟
ورغم ما يدّعيه المدافعون عن التدخل، إلا أنه كان بالإمكان من وجهة نظري انتهاج سياسة أفضل: عدم التدخل البتة لأن المدنيين الليبيين السلميين ربما لم يكونوا مستهدَفين في الحقيقة. ولو أن الولايات المتحدة وحلفاءها سلكوا هذا المسلك، لجنّبوا ليبيا الفوضى التي باتت غارقة فيها اليوم. وقد أضحت ليبيا اليوم تعج بالمليشيات المسلحة والإرهابيين المناوئين للولايات المتحدة، ولهذا، فإنها تمثل قصة تحذيرية للكيفية التي يمكن بها لتدخل إنساني أن يؤتي نتائج عكسية على المتدخِّل، وعلى أولئك الذين كان يفترض أن يساعدهم.
مسار دولة فاشلة!
بلغ التفاؤل بشأن ليبيا أوجه في يوليو 2012 عندما أوصلت الانتخابات الديمقراطية إلى السلطة حكومة ائتلافية علمانية معتدلة -في تباين قوي مع أربعة عقود من حكم القذافي الديكتاتوري. غير أن أوضاع البلاد سرعان ما انزلقت إلى الفوضى، حيث لم يستمر أولُ رئيس وزراء منتخَب في السلطة سوى شهر أو أقل، وكان خلعه السريع مؤشراً على المشاكل المقبلة. فحتى وقت كتابة هذه السطور، عرفت ليبيا سبعة رؤساء وزراء
في ظرف أقل من أربع سنوات. وسيطر الإسلاميون على أول برلمان في مرحلة ما بعد الحرب -«المؤتمر الوطني العام». وفي هذه الأثناء، فشلت الحكومة الجديدة في نزع أسلحة عشرات المليشيات، خاصة المليشيات الإسلامية، ما أدى إلى نشوب معارك ضارية على النفوذ بين القبائل المتنافسة والقادة، ضمن أعمال عنف ما زالت مستمرة إلى اليوم.
وفي أكتوبر 2013، أعلن انفصاليون في مناطق من ليبيا، حيث يتركز معظم ثروة البلاد النفطية، تشكيل حكومتهم الخاصة. وفي الشهر ذاته، تعرض رئيس وزراء البلاد وقتئذ علي زيدان للاختطاف وتم احتجازه كرهينة. وفي ضوء التأثير المتزايد للإسلاميين داخل الحكومة الليبية، أرجأت الولايات المتحدة في ربيع 2014 مخططاً لتدريب وتسليح قوة تتراوح ما بين 6 آلاف و8 آلاف جندي ليبي. وبحلول مايو 2014، كانت ليبيا قد وصلت إلى حافة حرب أهلية جديدة -بين الليبراليين والإسلاميين هذه المرة.
ففي ذلك الشهر، سيطر الجنرال خليفة حفتر على القوة الجوية وواجه المليشيات الإسلامية في بنغازي، ثم اتسعت المواجهة لاحقاً لتشمل البرلمان الذي يهيمن عليه الإسلاميون في طرابلس. ولم تفعل انتخابات يونيو الماضي أي شيء لحل الأزمة. كما لم يعد معظم الليبيين يتوقعون من الديمقراطية أي شيء، حيث انخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات من 1,7 مليون ناخب في الانتخابات السابقة إلى 630 ألف ناخب فقط. ثم أعلنت الأحزاب العلمانية النصر وشكلت برلماناً جديداً -«مجلس النواب»، ولكن الإسلاميين رفضوا الاعتراف بذلك. فكانت النتيجة مولد برلمانين متنافسين يزعم كل واحد منهما أنه هو البرلمان الشرعي للبلاد.
وفي يوليو الماضي، ردت مليشيا إسلامية من مدينة مصراتة عبر مهاجمة طرابلس، ما دفع السفارات الغربية إلى إجلاء مواطنيها. وبعد معركة استمرت ستة أسابيع، سيطر الإسلاميون على العاصمة في أغسطس باسم ما يسمى «ائتلاف فجر ليبيا»، الذي شكّل مع البرلمان الميت ما سمياه «حكومة إنقاذ وطني»! وفي أكتوبر، لجأ البرلمان المنتخَب حديثاً، بقيادة «ائتلاف عملية الكرامة» العلماني، إلى مدينة طبرق شرق البلاد، حيث شكّل حكومة انتقالية منافسة هي المعترف بها دولياً! وهكذا، تجد ليبيا نفسها اليوم أمام حكومتين متناحرتين، تسيطر كل واحدة منهما على جزء محدود فقط من الأراضي والمليشيات.
من سيئ.. إلى أسوأ
والواقع أنه رغم سجل حقوق الإنسان السيئ في عهد القذافي، إلا أن الوضع ازداد سوءاً منذ أن تم خلعه من قبل «الناتو». فمباشرة بعد سيطرتهم على السلطة، ارتكب بعض الثوار عدداً من أعمال القتل الانتقامية، إضافة إلى تعذيب وضرب واعتقال آلاف المشتبه في أنهم من أنصار القذافي بشكل تعسفي. كما طردوا 30 ألفاً من سكان مدينة تاورغاء، ومعظمهم من السود، وقاموا بحرق أو نهب منازلهم ومتاجرهم بدعوى أن بعضهم من المرتزقة! وبعد ستة أشهر على الحرب، أعلنت منظمة «هيومان رايتس ووتش» أن الانتهاكات «تبدو ممنهجة جداً وواسعة الانتشار إلى درجة أنها قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية».
ملاذ ومرتع للإرهابيين
ومنذ تدخل «الناتو» في 2011، تحولت ليبيا، ومالي المجاورة، إلى ملاذين للإرهاب، حيث ظهرت تحت الغطاء الجوي لـ«الناتو» تنظيمات إسلامية راديكالية -كانت مكبوحة في عهد القذافي- وكشفت عن قدر كبير من الكفاءة والخطورة في القتال. وبعد سقوط القذافي، رفض الثوار، الذين كانت بعض البلدان المتعاطفة قد أمدتهم بالسلاح، التجرد من أسلحتهم، وبرز تهديدهم أكثر في سبتمبر 2012 عندما قام «جهاديون» من تنظيمات مثل «أنصار الشريعة» بمهاجمة المجمع الدبلوماسي الأميركي في بنغازي، ما أسفر عن مقتل السفير الأميركي في ليبيا «كريستوفر ستيفنز» وثلاثة من زملائه. وفي العام الماضي، أعلنت الأمم المتحدة جماعة «أنصار الشريعة» رسمياً منظمة إرهابية بسبب علاقتها بـ«القاعدة في المغرب الإسلامي». رواج تهريب السلاحوتفاقمت مشكلة الإرهاب أيضاً جراء تسرب أسلحة حساسة من ترسانة القذافي إلى إسلاميين راديكاليين عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، يقدّر «بيتر بوكرت» من منظمة «هيومان رايتس ووتش» أن عدد الأسلحة المفقودة في ليبيا يعادل عشرة أضعاف نظيرتها في الصومال أو أفغانستان أو العراق. ولعل التخوف الأكبر هو بشأن أنظمة الدفاع الجوي المحمولة، المعروفة أيضاً باسم «المنصات البشرية» التي يمكن أن تُستعمل لإسقاط طائرات مدنية وعسكرية إنْ هي وقعت بين أيدٍ مدربة. واعتباراً من فبراير 2012، وصل عدد هذه الصواريخ المفقودة إلى 15 ألفاً، وفق مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أشير إليه في مقال بصحيفة «واشنطن بوست». وقد مكّنت عملية كلفت 40 مليون دولار من شراء واستعادة 5 آلاف قطعة منها، ولكن المقال يشير إلى أن المئات من تلك الصواريخ لا تزال مفقودة، وقد سقط بعضها بين أيدي جماعة «بوكو حرام» المتطرفة في شمال نيجيريا، في حين تم العثور على عشرات منها أيضاً في الجزائر ومصر.
رد الفعل الأوسع
والواقع أن الضرر الذي نجم عن التدخل في ليبيا يمتد إلى خارج المنطقة. ذلك أنه من خلال المساعدة على إسقاط القذافي، قوّضت الولايات المتحدة أهدافها الخاصة بحظر الانتشار النووي. ففي 2003، كان القذافي قد أوقف بشكل طوعي برنامجيه للأسلحة النووية والكيماوية وسلّم ترسانته للولايات المتحدة. أما الجائزة التي حصل عليها بعد ثماني سنوات على ذلك، فكانت تغييراً للنظام قادته الولايات المتحدة وانتهى بموته بطريقة عنيفة. وهذه التجربة عقّدت كثيراً مهمة إقناع دول أخرى بوقف برامجها النووية والعدول عنها. فبعيد بدء الحملة الجوية، أصدرت كوريا الشمالية بياناً يقول: «إن الأزمة الليبية علّمت المجتمع الدولي درساً خطيراً، وإن كوريا الشمالية لن ينطلي عليها التكتيك (الأميركي) لنزع أسلحة البلاد».
الدرس الليبي.. دولياً
وإضافة إلى ذلك، ساهم التدخل في ليبيا أيضاً في تغذية العنف في سوريا. ففي مارس 2011، كانت الانتفاضة السورية لا تزال غير عنيفة بشكل عام، وكان رد نظام الأسد محدوداً، وإنْ كان عنيفاً ودموياً، حيث كان يحصد أرواح أقل من 100 سوري في الأسبوع. ولكن عندما أطلق «الناتو» أيدي الثوار في ليبيا، لجأ الثوار السوريون إلى العنف في صيف 2011، ربما على أمل جذب تدخل غربي مماثل على شاكلة ما وقع في ليبيا، حيث قال أحد الثوار السوريين لصحيفة «واشنطن بوست» وقتئذ: «إن الوضع مماثل لبنغازي»، مضيفاً «إننا في حاجة لمنطقة حظر جوي». ولكن النتيجة كانت تصعيداً كبيراً للنزاع السوري، ما أدى إلى بلوغ الخسائر 1500 قتيل في الأسبوع مع بداية 2013، وهو ما يناهز زيادة بـ15 مرة.
كما عرقلت مهمة «الناتو» في ليبيا جهودَ إحلال السلام في سوريا عبر استعداء روسيا أيضاً. فمع رضوخ موسكو، وافق مجلس الأمن الدولي على إقامة منطقة حظر جوي في ليبيا وتدابير أخرى لحماية المدنيين، ولكن «الناتو» تجاوز هذا التفويض وسعى لتغيير النظام. ومثلما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن قوات «الناتو» قد «انتهكت قرار مجلس الأمن الدولي حول ليبيا بشكل صريح عندما لم تكتف بفرض منطقة حظر جوي فوقها، وإنما شرعت في قصفها أيضاً». ولاحقاً، قال وزير خارجيته سيرجي لافروف إنه نتيجة لذلك، «لن تسمح (روسيا) لمجلس الأمن الدولي أبداً بالترخيص لأي شيء (في سوريا) شبيه بما حدث في ليبيا».
والحال أن عمل «الناتو» لم يفشل في دعم ثورة سلمية في سوريا فحسب وإنما شجع أيضاً على عسكرة الانتفاضة هناك، وعرقل إمكانية تدخل دولي. فكانت النتيجة بالنسبة لسوريا وجيرانها تفاقم تراجيدي لثلاث معضلات في آن واحد: تفاقم المعاناة الإنسانية، واستشراء الطائفية، وانتشار التنظيمات الإسلامية المتطرفة.
مرارة الدرس الليبي
والواقع أن أوباما أبدى ندماً بخصوص ليبيا، ولكنه استخلص الدرس الخطأ للأسف، حيث قال لتوماس فريدمان كاتب العمود بصحيفة «نيويورك تايمز» في حوار أجراه معه في أغسطس 2014: «أعتقد أننا قللنا من شأن الحاجة إلى استعمال كامل قوتنا»، مضيفاً «إذا كان المرء سيقوم بهذا الأمر، فينبغي أن يكون ثمة جهد أكبر لإعادة بناء المجتمعات». والحال أن هذه بالضبط هي الخلاصة الخاطئة لأن الخطأ الذي ارتُكب في ليبيا ليس عدم كفاية الجهود التي بذلت في مرحلة ما بعد التدخل، وإنما كان الخطأ هو قرار التدخل أصلاً. ذلك أن الاحتمال الأكبر في الحالات مثل ليبيا هو أن يؤدي التدخل العسكري إلى نتائج عكسية عبر تأجيج العنف، وفشل الدولة، وتفشي الإرهاب. وفضلاً عن ذلك، فإن فكرة التدخل تخلق حوافز لدى المقاتلين ليستفزوا الحكومة ويستدرجوها للرد عليهم ومن ثم إطلاق نداء الاستغاثة وادّعاء أنهم يتعرضون للإبادة الجماعية قصد جذب مساعدة دولية -وهذا هو الخطر الأخلاقي للتدخل الإنساني.
ومن وجهة نظري الخاصة فإن الدرس الحقيقي من ليبيا هو أنه عندما تستهدف دولة ما المتمردين، فعلى المجتمع الدولي أن يحجم عن شن حملة عسكرية على أسس إنسانية لمساعدة المتمردين. كما ينبغي على الجمهور الغربي أن ينتبه للثوار الذين يهوّلون ويبالغون ليس بشأن عنف الدولة فحسب ولكن أيضاً بشأن الدعم الشعبي الذي يتمتعون به. بل إنه حتى عندما يكون ثمة نظام فيه الكثير من العيوب، على غرار نظام القذافي، فإن الأرجح هو أن التدخل لن يعمل إلا على إذكاء حرب أهلية مع ما ينطوي عليه ذلك من زعزعة لاستقرار البلاد، وتعريض المدنيين للخطر، وتعبيد الطريق للمتطرفين. وعليه، فإن الطريق الحذر يكمن في تشجيع الإصلاح السلمي. أما التدخل الإنساني، فينبغي أن يخصص للحالات النادرة التي يتم فيها استهداف المدنيين، وحيث يمكن للعمل العسكري أن يفيد أكثر مما يمكنه أن يضر، مثل رواندا في 1994. وبالطبع، فقد ترغب القوى الكبرى أحياناً في استعمال القوة في الخارج لأسباب أخرى -مثل محاربة الإرهاب، أو تلافي الانتشار النوي، أو إسقاط ديكتاتور بغيض- ولكنها ينبغي ألا تدّعي أن الحرب التي ستنتج عن ذلك إنسانيةٌ، أو تُفاجَأ عندما تؤدي تلك الحرب إلى إزهاق أرواح الكثير من المدنيين الأبرياء.
آلان كوبرمان*
* أستاذ بجامعة تكساس- أوستن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»
&
التعليقات