فهد الدغيثر

لا يوجد لدي أدنى شك في أن «عاصفة الحزم» أسهمت بشكل غير مسبوق في الرفع من مستوى تقويم الإعلام العربي بشكل عام والسعودي - تحديداً - بشكل خاص.

&

وليس لدي أدنى شك - إضافة إلى قناة «الإخبارية» السعودية التي تألقت أخيراً - في أن قناتي «العربية» و«الحدث» حظيتا بثقة السواد الأعظم من جمهور المشاهدين العرب، في الوقت نفسه أسهمت هذه العاصفة في كشف القنوات المزيفة، التي لم تتوقف عن اختلاق الأكاذيب والخزعبلات الموجهة ضد دول التحالف. الجميل هنا أن الجمهور - وخلافاً لما كان يحدث في السابق - فضّل متابعة الحقيقة على حساب الإثارة. وهذا أعتبره تحولاً نوعياً في الذائقة العربية وارتفاعاً في الوعي.

&

على أن من أبرز البرامج التي تابعتها ومنذ حلقته الأولى برنامج «مرايا»، من إعداد وتقديم الصحافي المميز مشاري الذايدي، وتبثه «العربية» كل مساء، ويعاد بثه في أوقات مختلفة.

&

«مرايا» ليس كأي البرامج، ذلك لأنه كبسولة سريعة شهية ومشبعة، لكن بلا تخمة. يتألق معد البرنامج ومقدمه في تقديم الموضوع الذي يريد طرحه في زمن قياسي قصير، وبكم دسم من المعلومات ودرجة عالية من التوثيق. قارنت بين «مرايا» وغيره، فلم أجد له شبيهاً في وقتنا الحاضر.

&

لكن في العودة إلى الوراء قليلاً أجده يذكرني بكبسولة قديمة، كانت تبث كل أسبوع في ختام البرنامج ذائع الصيت «سيكستي مينيتس» في محطة CBS الأميركية. يُعِدُّ هذه «القفلة» ويقدمها الإعلامي الكبير والساخر آندي روني، المتوفى في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ٢٠١١. فقرة السيد روني ذات الدقائق الست فقط، كانت الأقوى والأكثر إثارة في ختام برنامج هو في الأصل مثير جداً، ويحمل صدقية عالية بين المشاهدين.

&

لقد أحسن مدير قناة «العربية» الإعلامي السعودي تركي الدخيل صنعاً عندما فكر في مثل هذه البرامج، ومن غير الذايدي اطلاع وثقافة وحسن أداء وصوت يستطيع أن يجعل منها قصة نجاح.

&

تكلم السيد نصرالله مراراً أثناء عملية «عاصفة الحزم» وكانت مدة الخطبة الواحدة لا تقل عن ٤٠ دقيقة. ثم ما هي إلا لحظات حتى يطل علينا «مرايا» وفي غضون سبع دقائق - تقريباً - يتم نسف كامل ذلك الخطاب.

&

إنه الإعلام المتجدد الذي فرض نفسه في هذا العصر. فلا الحماسة والانفعال ولا الخطب الطويلة تجدي نفعاً إن لم تحمل الصدقية، بل ولا حتى نشرات الأخبار المطولة التي تزكم الأنوف أحياناً هو ما يتطلع إليه مشاهد ومتابع هذا العصر.

&

لو كنت مستشاراً للسيد نصر الله لاقترحت عليه ومنذ سؤاله الأول لي كمستشار للتعليق على العاصفة، الاكتفاء بعدد محدود جداً من التغريدات في «تويتر» لإيصال رسائله، بدلاً من تلك الحماسة والتكرار الممل والكلام الفارغ.

&

من ناحية أخرى، وفي «عاصفة الحزم» - وهذا مجرد رأي شخصي - غابت أجهزة الإعلام في عدد من دول التحالف. الكويت مثلاً ولمن لا يعلم هي عضو في فاعل في التحالف الذي ينفذ العمليات العسكرية في اليمن، لكنها وقياساً بالأداء الإعلامي الكويتي بدت وكأنها دولة متفرجة على ما يحدث. من يصدق هذا الكلام عن الكويت التي كانت في وقت مضى تتربع على قائمة الدول العربية في النفاذ الإعلامي عبر ثقافتها وصحفها الشهيرة آنذاك؟ حتى دولة الإمارات - باستثناء قناة «سكاي العربية» - وهي محسوبة إلى حد ما على حكومة أبو ظبي، لم تظهر عبر وسائلها الإعلامية وكأنها تلك الدولة الرئيسة في التحالف.

&

لم أتابع قناة «الجزيرة» بما يكفي للحكم عليها، لكنني غير متأكد من نوايا القائمين عليها حتى لو أسهمت بتغطية إيجابية خلال تنفيذ العملية.

&

أعود إلى المملكة، التي لم تنجح فقط في قيادة دول التحالف عسكرياً، بل نجحت أيضاً في الإعلام والتغطية. قناة «الإخبارية» وهي مملوكة للدولة أسهمت بشكل لافت للأنظار في برامج يومية هادفة، تحلل وتفصل ما يحدث في اليمن. ضيوفها بشكل عام كانوا على قدر التوقعات في طرحهم وتحليلهم. الصحف السعودية من دون استثناء ارتقت بمهنيتها كثيراً، ووقفت سداً منيعاً ضد كل من يريد بغباء أو سوء نية أن يروج بأن «عاصفة الحزم» هي حرب بين السنة والشيعة المسلمين.

&

وأخيراً لكنه ليس آخر وكما أشرت، إسهام قناتي «الحدث» و«العربية» في التغطية المستمرة والمميزة والحية من داخل وخارج اليمن. قبل كل هؤلاء كانت هناك بالطبع مبادرة وزارة الدفاع بتعيين العميد أحمد العسيري متحدثاً رسمياً لعاصفة الحزم. هذا الرجل عجيب جداً، إذ وعلى رغم ظهوره الأول على جميع شاشات العالم من دون سابق تجربة، وعلى رغم تخبط بعض السائلين في نهاية الإيجاز اليومي للعملية ومحاولاتهم استفزازه، ظهر متماسكاً وواثقاً، وقبل ذلك هادئاً جداً. لم ألحظ في جميع الإيجازات أي تكرار أو حشو أو كلمات نابية. العميد العسيري على كل حال نجم جديد وقصة أخرى تستحق التفصيل في مقالة أخرى.

&

«عاصفة الإعلام» وضعت المملكة في المرتبة الأولى وبمراحل عما يليها. نجاح المملكة وشبابها في إدارة هذه الأزمة سياسياً وعسكرياً وإعلامياً سيجير لمصلحة الوطن. هذا ما يسمى بالعمل التكاملي الخاضع إلى منظومة واحدة لا تقبل إلا الإبداع.

&

نعم، نجحت المملكة عسكرياً وحطمت آمال الحوثي ومن ورائه، ونجحت سياسياً في بناء التحالف وتدويل القضية والحصول على الدعم مباشرة من مجلس الأمن، لكنها أيضاً تفوقت إعلامياً وجذبت الجماهير من «بي بي سي» وغيرها إلى قنواتها، على رغم أن ذلك - وللأمانة - ربما سبق أن تحقق وبجزء كبير منه قبل العاصفة بعقود، منذ بروز «الشرق الأوسط» ومجموعة «إم بي سي»، غير أن العاصفة بلا شك أضافت إلى ذلك الزخم بعداً جديداً ومسؤولية مختلفة. على أن النجاح في نهاية المطاف قصة، والبقاء ناجحاً في ما بعد يعتبر قصة أخرى.

&

كل ما أتمناه، هو أن نقوم بالمراجعة الشاملة بعد الانتهاء من اليمن، ونجري التقويم العلمي لمسيرة الإعلام السعودي، إذ نعمل من جديد وبلا كلل على المحافظة على هذا التفوق، وأن نتدارك أي أخطاء وقعت. بعد ذلك نوجه هذا النجاح إلى الإعلام الداخلي في زمن السلم وندفعه إلى الأمام. صحيح أن الأزمات توحد وتخلق الإبداع في العمل، لاسيما الأزمات الأمنية منها، غير أن هذا الإبداع مطلوب في جميع الأوقات، لاسيما في ما يتعلق بالداخل السعودي.

&

إعلامنا الداخلي مع الأسف ما زال بحاجة إلى تطوير رسائل التسامح والتعايش، ونبذ التعصب والطائفية وخفض مستويات الجدل الرديء الذي تحظى به مواضيع فكرية كثيرة، إضافة - بالطبع - إلى دراما الرياضة وتخبطات المعلقين والمحللين والمغردين بمختلف ميولهم. نحتاج إلى نشرات للأخبار لا تمتد لأكثر من نصف ساعة. عطفاً على ذلك سيتم تحديد البرامج الأخرى بمواعيد ثابتة لا تخضع لطول زمن تلك النشرة.

&

احترام المشاهد يعتبر ركيزة أساسية في قرار متابعة القناة. هنا نعلق الآمال على وزير الإعلام السعودي عادل الطريفي الذي بلا شك يتفق معي في الكثير مما وضعته هنا من ملاحظات.
&