مصطفى فحص

يقول أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين في جامعة طهران المفكر التنويري الإيراني مجتهد شبستري إنه «يمكن لنا أن نتوقع من الدين مبادئ أخلاقية ينبغي مراعاتها في السياسة أيضًا. لكن لا يمكن أنْ نتوقّع من الدين برنامجًا سياسيًا من أجل بلوغ أهداف اجتماعيةٍ معيّنة. الدين بحسب فهمي علاقة بين الإنسان والله، يتحدّث الإنسان فيها إلى خالقه ويستمع إليه، ويتحرّر داخليًا. لذلك أرى أنَّ الدين ليس برنامجًا سياسيًا والإسلام بدوره ليس كذلك».
من المؤكد أن آراء شبستري هذه، وآراء غيره من التنويريين في إيران، التي استثمرها نظام طهران من أجل إعطاء صورة حداثية عنه وعن مجتمعه في العالم، غير مرحب بها في بيروت، لأنها تناقض الصورة النمطية التي يكرسها حلفاء النظام الإيراني عنه في بيروت، وفي أذهان الشيعة خاصة، واللبنانيين عامة.


كانت الجامعة الأميركية في بيروت على موعد مع ندوة للمفكر مجتهد شبستري حول الإصلاح الديني، بدعوة من المركز العربي للحوار، إلا أن شبستري الذي كان على أهبة المجيء، وتابع تنسيق الدعوات، اعتذر فجأة، وبطريقة غامضة، مما يرجح أنه تعرض لضغوط سياسية من قبل القيمين على الترويج للفكرة السالفة عن إيران، الذين من مصلحتهم اختزالها بولاية الفقيه والحرس الثوري والغلو المذهبي.


يضاف احتمال الضغط على شبستري لعدم الحضور إلى بيروت، إلى سلسلة ضغوط مورست تجاه تيار التنوير الإيراني في الخارج، منها: منع عرض الفيلم السينمائي الإيراني «الأيام الخضراء» في مهرجان بيروت للسينما منذ أكثر من سنتين من قبل الأمن اللبناني.


يعتبر موالو النظام في لبنان أن خطاب المثقفين الإيرانيين التنويريين يشوه مفاهيم الثورة الإيرانية في وجدان مؤيديها في لبنان، لذلك يحاذرون من وصولها إلى بيئتهم ولا يعدمون وسيلة تحقق لهم ذلك. وحتى الآن ورغم انتشار تعلم اللغة الإيرانية في البيئة الشيعية مترافقة مع اقتباس بعض العادات الاجتماعية والدينية، فإن الجهات القيمة على التواصل الثقافي الإيراني - اللبناني لم تسمح بإدخال السينما الإيرانية التي تعكس وجهة نظر أخرى عن إيران كأعمال مخرجين كبار أمثال مخملباف أو كياروستامي أو جعفر بناهي إلى قاموسنا السينمائي، ولولا مهرجانات بيت الدين لم يسمع اللبناني موسيقى إيرانية من أعمال ناظري وشجريان ويزدي، وغيرهم. لم يناقش في بيروت شعر الخيام وأثره على الإنسانية، لم تعرفنا المستشارية الثقافية إلى سعدي وحافظ وجلال الدين الرومي ومكانتهم في الذائقة الأدبية الإيرانية، ولم يناقش الثوريون الجدد تاريخ ثورة المشروطية والثورة الدستورية والثورة الخضراء. ففي لبنان من المستحيل أن تجد في أوساط الرعية الثقافية للولي الفقيه أحدًا يذكر أمير كبير أو محمد تقي زاده أو محمد مصدق أو مير حسين موسوي، فالنظام الإسلامي في إيران وحليفه في لبنان مصران على اطلاعنا على ما بات مرفوضًا لدى الشعب الإيراني وما بات غير قابل للتطبيق في مجتمع الجمهورية الإسلامية.


وعندما تذكر إيران في المحافل الأدبية المتفرعة عن محافل السلطة في طهران ولبنان يبدو وكأن إيران الحالية ليس فيها مسرحي أو شاعر أو روائي، ومن المستحيل أن تعثر على ترجمة لأعمال للروائي الإيراني محمود دولت أبادي، وكأن الأدب الإيراني يخلو من الرواية، أما المفكر علي شريعتي فإن الجميع من قمّ إلى الضاحية تجنبوه بأوامر أمنية.


فإيران عمر الخيام وابن سينا وحافظ شيرازي وسعدي، وعبد الكريم سروش وتنويريو قم من منتظري وصانعي وملكيان وشبستري وكاديور ومحمد خاتمي وعبد الله نوري، ومحقق داماد، وداريوش ومهريزي ممنوعة في بيروت. ما يصلنا في بيروت من الثقافة الإيرانية مقتصر على الخطابات الرنانة وتسلط العسكريتاريا، وسباق التسلح، والمناورات الفارغة، واستدعاء الغيبيات، على حساب الحقائق، واختزال المد الثقافي الجامح عبر العصور بنشر الخرافات والفتاوى والقدرة النووية.


مع صعود الشيعية السياسية في لبنان وارتباطها المباشر بإيران ونظامها الإسلامي، كان من المفترض أن يترافق ذلك مع صعود ثقافي وأدبي، تكون فيه اللغة الفارسية وأدبها وثقافتها مفتاحًا له. لكن اختزال هذا الصعود بـ«حزب الله» وبيئته، أدى إلى تمظهر زبائنية سياسية، أو تبعية ثقافية، أذكاها اختزال «حزب الله» نفسه بالعسكرة، والثقافة المذهبية، فقدم لغة صعبة، ليس على اللبنانيين فحسب، بل على الشيعة أيضًا، سرعان ما تسربت هذه اللغة إلى تفاصيل الحياة اليومية، عبر نظام مصالح واسع، وسيطرة على مراكز القرار الخاصة بالطائفة وبالدولة.