عبد المنعم سعيد
استنادًا إلى مصادر عسكرية أميركية، ذكر موقع ومجلة «السياسة الخارجية» في الولايات المتحدة تقديرًا لعدد «القتلى» من تنظيم داعش نتيجة الهجمات الجوية بلغ نحو 13 ألفًا، بمتوسط قدره 1000 قتيل شهريًا تقريبًا. ولكن رغم هذا العدد من القتلى، فإنه لا يبدو أنه خدش من قدرة «داعش» القتالية، ولا قدرتها في التوسع في العراق حينما غزت «الرمادي»، وسوريا عندما غزت «تدمر»، وحتى في ليبيا البعيدة فقد امتد وجود «داعش» إلى مدينة «سرت». سبب ذلك أن «داعش» ظلت دائمًا لها القدرة على تجنيد الكوادر التي تجعلها تعوض ما تفقده من عناصر، حيث لوحظ تدفق المتطوعين من جنسيات مختلفة للانضمام إلى صفوفها. ونقلاً عن الإحصائيات التي وضعها المركز الدولي لدراسة الراديكالية فإنه خلال الفترة من نهاية 2011 وحتى 10 ديسمبر (كانون الأول) 2013 فإن عدد المقاتلين الوافدين للقتال في سوريا وحدها تراوح بين 1100 و3300 مقاتل، 18 في المائة منهم من غرب أوروبا، و70 في المائة من الشرق الأوسط، والباقي من البلقان والجمهوريات السوفياتية السابقة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وبعد عامين تقريبًا من هذه الأرقام، فإن قاعدة التجنيد اتسعت لتشمل مناطق واسعة من شرق وجنوب شرقي آسيا والصين، بالإضافة إلى تنشيط تنظيمات «متطرفة إرهابية» سابقة مثل الجماعة الإسلامية في مصر بحيث تقدم مددًا جديدًا لجيل الإرهابيين الجدد. نتيجة ذلك كله فإن الأرقام التي أعلنتها المصادر الأميركية تبدو معقولة ومنطقية.
المسألة هكذا تجعل المعركة الراهنة ضد الإرهاب ذات طبيعة «كونية»؛ فهي ليست معركة خاصة بدولة بعينها، ولا بإقليم محدد مثل الشرق الأوسط، بل إنها تخص العالم كله لأنها لا تؤدي فقط إلى القيام بعمليات إرهابية في مناطق مختلفة من العالم، ولكنها أيضًا تمهد لمعارك طويلة مقبلة، بعد أن يقوم هؤلاء بالعودة مرة أخرى إلى بلادهم محمّلين بخبرات قتالية وإرهابية واسعة، والأخطر درجات عالية من التعصب والعنصرية. ولكن الشرق الأوسط الكبير يظل همنا الأول، خاصة مع الارتفاع المخيف لعدد الصراعات، وضحايا الإرهاب في دول عربية عدة، والناجمة عن النشاط الإرهابي لجماعات وحركات إرهابية متعددة. ووفقًا لأحد التقديرات فإن عدد الصراعات الحالية في الشرق الأوسط بلغ 71 صراعًا في عام 2014؛ ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، فقد بلغ إجمالي عدد القتلى من جراء التوترات السياسية التي تلت «الربيع العربي» (وكان للحركات السياسية الدينية فضل على تلك الطائفية والعرقية نصيب وافر منها) وحتى نهاية 2014، عدد 430.200 نسمة، يتصدرها 230 ألفًا في سوريا وحدها، و160 ألفًا في العراق، و50 ألفًا في ليبيا، و11 ألفًا في اليمن، و4500 في مصر، و2800 في البحرين، و400 في لبنان، و219 في تونس. وعلى صعيد الجرحى والمصابين فقد بلغ عدد الجرحى في هذه البيانات ذاتها 2359700، من بينهم مليون و100 ألف في سوريا، ومليون في العراق، و120 ألف ليبي، و100 ألف يمني، و25 ألف مصري، و1491 في تونس.
في هذه الأرقام لا يمكن التمييز بين القتلى والجرحى نتيجة أعمال العنف التي قام بها المقاتلون المحليون، وتلك التي قام بها المقاتلون الأجانب الذين يتزايد عددهم كل يوم من كل أنحاء العالم تقريبًا. ولكن الثابت أن تركيا تمثل منفذًا رئيسيًا لهؤلاء عند الدخول إلى ساحة القتال الكبرى على الحدود العراقية - السورية، حيث يجري القتال بين قوات التحالف الدولي من ناحية، وجماعة داعش من ناحية أخرى. وقد حاولت تركيا الدفاع عن نفسها بالدفع بأنها دولة «ليبرالية» تسير على «التقاليد الأوروبية»، ومن ثم فإنها لا تستطيع اتباع أساليب عنيفة في مواجهة من يخترق حدودها من العناصر الإرهابية، وخاصة أن حدودها واسعة، وملتصقة ليس فقط مع سوريا وإيران، وإنما أيضًا مع روسيا والكثير من الجمهوريات السوفياتية الأخرى. والأخطر، وفقًا لوجهة النظر التركية، أن تركيا ذاتها بلد سياحي يستقبل قرابة 35 مليون سائح، يصعب اكتشاف «المجاهدين» منهم وهم الذين يمكنهم الاندساس بين سائحين من مختلف الجنسيات، فضلاً عن النازحين السوريين والعراقيين الذين يواصلون الخروج والدخول إلى بلادهم. ولكن شهود العيان على الحدود التركية - السورية يقدمون حججًا مضادة، قوامها أولاً سهولة الدخول من الحدود التركية، والتي تصل إلى حد تقديم تسهيلات لوجستية من ملابس وخرائط وتوجيهات ملائمة للحركات الإرهابية المختلفة حسب ما يطلبه الإرهابيون من جنسيات مختلفة. وثانيًا أن تركيا سمحت بوجود أنابيب للنفط تمر تحت حدودها لنقل النفط الذي تسيطر عليه «داعش» إلى الأسواق الدولية. وأخيرًا، فإن المستشفيات التركية في الجنوب التركي عامرة بمن يتلقون العلاج من جرحى «داعش».
إن هذه حالة المخيفة من التناقضات التركية ما بين مساهمة أنقرة في التحالف الدولي المناهض للإرهاب و«داعش» تحديدًا، وما بين ترك الباب مواربًا لنوع من الغزو الإرهابي للمنطقة كلها، والتي باتت القاعدة التي يخرج منها معلمو الإرهاب ومدربوه إلى سيناء المصرية وسرت الليبية. ولكن الحق يقضي بأن التناقضات التركية ليست وحدها على الساحة، فلا تكاد تخلو دولة محاربة للإرهاب من تناقضات مماثلة قد تتفاوت في الحدة، ولكنها تظل موجودة وتحد من قدرة التحالف الدولي والإقليمي المناهض لـ«داعش» وباقي فصائل الإرهابيين. وبعد عام من نجاح «داعش» في غزو العراق وسوريا، والتوسع في عملياتها الإرهابية في أكثر من بلد عربي، فإن مراجعة ضرورية قد باتت مطلوبة لقصة الحرب ضد الإرهاب بكاملها.
إن إصرار «داعش» ليس فقط على إقامة «الخلافة» المزعومة، وإنما أيضًا على التوسع فيها بإقامة تحالف عالمي وإقليمي يضم عددًا كبيرًا من التنظيمات المتطرفة، وفوقها أنه صار آلة جذب هائلة للمقاتلين من كل أنحاء العالم؛ كل ذلك جذب غزاة جددًا للمنطقة. وليس سرًا على أحد أن هؤلاء الغزاة الجدد يعملون بقسوة بالغة، وعلى استعداد لإهلاك الزرع والضرع في المنطقة العربية بأكملها، باعتبارها مقدمة للاستيلاء على العالم الإسلامي كله. النيات ليست خافية على أحد، فالإرهابيون حريصون على إعلانها في مطبوعاتهم المختلفة، وبمختلف اللغات العالمية. ومن وقت لآخر فإنهم يسجلون الأمر في مذبحة كبيرة للتذكير والذاكرة لمن لا يعرف أو لا يفهم، أن «الفاشية الدينية» تريد أن تكتب تاريخًا جديدًا للمنطقة، وربما آن الأوان لوقف هذا التاريخ قبل أن يكون الثمن غاليًا وقاسيًا!
التعليقات