محمد الرميحي
في حال من السخط العام وحيرة عربية وانسداد أساسًا في الشأن السياسي، بعد عدد من التجارب الفاشلة للحاق بالعصر، ظهرت التجربة التركية مع حزب العدالة والتنمية في العقود الأخيرة في عيون بعض المسلمين على أنها النموذج (الإسلامي) الناجح لإدارة الدولة. اختلط على البعض فكرتان؛ الأولى (إسلامية) والثانية (مسلمة)، وتدفقت المواقف المعلنة من كثير من العرب على أن النموذج التركي في الحكم هو (الإسلام) بعينه. لم يتوقف كثيرون للتفرقة بين الاجتهاد من جماعة سياسية، يمكن أن تصيب أو يمكن أن تخطئ، و(الإسلام كدين). بعد نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا، تبين على أرض الواقع أن التجربة التركية، هي مجرد اجتهاد إنساني مرتكن إلى مفاهيم دينية، وتأكد للجميع أيضا أن قصور حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات، هو قصور إنساني/ سياسي، وليس بالتأكيد قصورا (دينيا) لا سمح الله، وقد يعود في المستقبل فائزا وقد يخسر خسارة الاندحار!
العودة إلى فكرة السياسة والدين في فضائنا العربي والإسلامي اليوم قضية محكمة التعقيد، وهي عودة لمناقشة العلاقة ملزمة، من أجل تفكيكها، لكثرة ما نشاهد من دمج مخل، بين حركات إنسانية/ سياسية مرتكنة إلى الإسلام، والإسلام نفسه، بتعاليمه وتاريخه الفقهي.
هناك الكثير حولنا من يشهر القول: إنه يسعى إلى إقامة (الخلافة)، سواء تلك (الخلافة) من المذهب السني (داعش) أو من المذهب الإثني عشري (الحوثيين)، مع تعدد الاجتهادات في داخل التيارين السابقين في عدد من المجتمعات الإسلامية، التي يحمل بعضها السلاح، وآخرون يحملون الدعوة بالغة الغلو.
القضية ليست جديدة، ولكنها فقط تلبس ملابس جديدة، وتخذ أشكالاً صراعية بعضها دموي، فهي منذ بداية القرن الماضي تجول في الأفق، ولعل فتح النقاش يفرض العودة إلى كتاب، رغم محدودية صفحاته، فإنه أثار ويثير الكثير من الانتباه، وأعني به كتاب الشيخ (الذي نزعت عنه المشيخة بسبب موقفه العقلي) علي عبد الرازق، الصعيدي المصري الأزهري، الذي صدح بقول مخالف سنة 1925، والنقاش على أشده وقتها، فيما إذا كان ضروريًا إحياء الخلافة التي اختفت من إسطنبول قبل ذلك بسنوات قليلة، قال ذلك الشيخ الشجاع: (السياسة دنيوية، يعود للناس اختيار وسائل ومبادئ الحكم الذي يرتضونه) وإن (أدلة من يريد أن يحيي الخلافة أقصر من دعواهم) فهناك فرق بين ولاية الهداية، وولاية تدبير مصالح الناس وعمارة الأرض. وقد أسهب الشيخ في عقلنة التفكير في إدارة الدولة ملاحظا أن السابقين قد خاضوا في أمور كثيرة دقيقة، ولكنهم أهملوا الخوض في إدارة الدولة ليقينهم أنها من الأمور الدنيوية.
نتيجة الانتخابات التركية الأخيرة تعطي دليلاً آخر على حصافة رأي ذلك الرجل الأزهري، أن السياسة هي اجتهاد إنساني. أما الأدلة الأخرى فهي الصراع الذي تفجر في تركيا من جانبين على الأقل في نفس التجربة؛ الأول بين رئيس حركة (خدمة) ومناصريه، محمد فتح الله غولن (أو كولن)، الذي بدأ بالدعوة الناعمة للحوار والتفاهم ومن ثم أسس إحدى أكبر الشبكات المعروفة للمدارس الدينية الحديثة، مع عدد من المؤسسات الأخرى في الإعلام والاتصال، وفي كثير من الأدبيات يعتبر هو (أستاذ) السيد رجب طيب إردوغان، وساعدت دعوته (الاعتدالية) في صعود حزب العدالة والتنمية سياسيًا في السنوات الأولى، إلا أن ذلك التحالف سرعان ما انفرط، كما يحدث في السياسة، وتحول إلى عداء مستحكم بين تيار (الأستاذ) وتيار (التلميذ) بالقطع ليس لأسباب إسلامية، وهو عطب يجب أن يُعزى إلى اجتهاد إنساني، وليس إلى قصور (إسلامي). الجانب الثاني هو الأقل ظهورًا في اختلاف الشريكين، إردوغان وعبد الله غل (الذي ترك الرئاسة مؤخرًا) وكان الاثنان (صنوين) في العمل، وقد تبين الآن مجالات الاختلاف بصدور كتاب مستشار عبد الله غل، أحمد سفر، المستشار الصحافي السابق لعبد الله غل (أشار إلى الكتاب الزميل الكبير جهاد الزين في نهار الاثنين الماضي) فقد كان عبد الله غل خلال رئاسته للدولة التركية على خلاف مع رفيق دربه السابق إردوغان في عدد من الملفات، وكان الخلاف يأخذ زاوية منفرجة، كلما طال زمن الرفقة، ظهر التباين أكبر، حتى الافتراق، وهو أمر لم يكن خافيًا على المراقبين، فقد كان لكاتب هذه السطور لقاء قبل عام تقريبًا مع السيد عبد الله غل، الذي كان رأيه غير موارب، ومختلفًا في عدد من الملفات خاصة العربية/ التركية عن رأي السيد إردوغان. ما أرغب في الإشارة إليه أن الخلاف والاتفاق في السياسة يجب ألا يُعزى أو يرتكن إلى الإسلام، هو براء مما يدعون، فالخلاف أو الاتفاق في هذا المجال هو إنساني واجتهادي بحت، وما يرغب أن يروجه البعض للتسلق إلى السلطة والتحكم في الناس باسم الإسلام باطل بطلان من يقيم الصلاة وهو جُنب!
الحركات المدعية للإسلام في فضائنا العربي والإسلامي هي حركات ترنو إلى السلطة، وترى أن هناك جمهورًا يمكن أن تحمله تحت تلك العباءة إلى تأييدها ومناصرتها، هو في حقيقة الأمر (سرقة الإسلام) لتوظيفه للمصالح السياسية معظمها مصلحي ضيق..
في هذه المناقشة يجب ألا يفهم مصادرة الاجتهادات المختلفة، فالتجربة التركية (الاعتدالية) في بدايتها حققت، نتيجة الاستفادة من تجارب سابقة فاشلة كتجربة نجم الدين أربكان، ومن نظرة حديثة لآليات العمل الاقتصادي، نجاحًا مشهودًا، لا مناص من القول: إن الاقتصاد التركي قد خطا خطوات عملاقة في العشريتين السابقتين التي شهدتا حكم العدالة والتنمية، إلا أنه كأي حزب في السلطة، تعتوره الشيخوخة والهزال في وقت ما، أو يركب بعض زعمائه الكبر، فيتحولون من قادة إلى أوصياء، فتسبقه المطالب الشعبية، دون آلية يملكها لمسايرة التطور فيتعثر، إلا أنه من جديد ليس عثرة (إسلامية)!
ربط العلاقة بين السياسي والديني هو السائد اليوم، وهو عمل يسبب الكثير من المشكلات للناس وللعلاقات الدولية، نجده صارخا في الحركات دون الدولة كمثل «داعش» والنصرة وحزب الله وأنصار الله، كلها تدعي وصلا بالدين، كما نجدها في دول مثل السودان أو إيران تدعي الوصل نفسه. خطورة هذا الادعاء ربط المنتج السياسي الذي هو في الغالب فاشل، بالإسلام العظيم، فتتكون صورة ذهنية يروج لها عند المجتمعات العالمية على أنها (دين الإسلام) وليس (أخطاء بشر صدف كونهم مسلمين) أو تدثروا بدثار الدين!
آخر الكلام:
قصور النظام الدولي في حل المشكلات العالمية ظاهرة تنبئ عن انقسام حاد، فبدلاً من التوافق لحل الصراع، يُبدل المجتمع الدولي الوسطاء؛ ثلاثة في سوريا، واثنان حتى الآن في اليمن، ومثلهم في ليبيا! لا مناص من كتلة إقليمية عربية تدافع عن مصالحها في هذه الأجواء شديدة الاضطراب.
&
&
التعليقات