الأمير الراحل سعود الفيصل سيد الدبلوماسية العربية …كما عرفته


سليمان نمر

الأمير سعود الفيصل .. كان سيد المؤتمرات، خليجية كانت أم عربية أم دولية، الكل يستمع إليه إذا تحدث ولا أحد من الحاضرين ينسحب أو ينشغل بالحديث مع من يجاوره في المقعد.
كان منظمو المؤتمرات أو الاجتماعات التي تدعى إليها السعودية يحرصون على حضوره حتى يأخذ المؤتمر أهميته، وفي كل مؤتمر دولي يتجنب اللقاء مع الإسرائيليين الذين يسعون إلى أي فرصة للسلام عليه، والقليلون يذكرون كيف اشترط على الأمريكيين الذين نظموا مؤتمر «انا بوليس» للسلام في الشرق الأوسط في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2007 ان يدخل إلى قاعة الاجتماع من غير الباب الذي يدخل منه الوفد الإسرائيلي، حتى يتجنب سعيهم لمصافحته، وحين سئل عن ذلك رد قائلا «لسنا هنا لأداء عمل مسرحي، انما نحن هنا لعمل جاد من أجل إحلال السلام ولسنا هنا لإعطاء انطباع بأن كل شيء على ما يرام». وأكد انه لن يصافح الإسرائيليين وقال «لن نفعل شيئا يشتت الانتباه عن جدية المناسبة (مثل) التصافح بالأيدي لاعطاء انطباع عن شيء ليس موجودا».


كان يكره أي تعامل مع الإسرائيليين أو الالتقاء بهم، وأذكر في احدى المرات التي التقيته فيها عام 2007 اني قلت له: من كثرة الأخبار عن اتصالات سعودية ـ إسرائيلية صرت أصدق»، فأجابني «لا تصدق» فقلت له، وأخبار اللقاء الذي عقد في الأردن بين الأمير بندر بن سلطان، (وكان وقتها أمينا عاما لمجلس الأمن الوطني السعودي)، قال لي انتظر أياما وسترى الرد. وبالفعل بعد أيام أبعد العاهل السعودي السابق الملك عبد الله الأمير بندر وأوقفه عن ممارسة مهام منصبه كأمين عام للمجلس المسؤول عن كل الملفات الأمنية السعودية، بسبب لقائه مع الإسرائيليين.
كان الأمير سعود الفيصل أمير وزراء الخارجية العرب، الكل كان يحترمه ويعتز بصداقته، كان الداينمو المحرك لهم في الاجتماعات العربية والدولية، وكان الوحيد الذي يخشاه وزير الخارجية السوري الأسبق عبد الحليم خدام المعروف بسلاطة لسانه، وكان الوحيد الذي يحسب له حسابا وزير الخارجية القطري السابق الشيخ حمد بن جاسم.


مع عمرو موسى وفاروق الشرع حين كانا وزيرا خارجية لمصر وسوريا شكل تحالفا ثلاثيا قاد المؤتمرات العربية العديدة خلال فترة تسعينيات القرن الماضي.
لم يكن الأمير سعود الفيصل أميرا عاديا ولا وزيرا عاديا، كان له الحضور، وكان بابتسامته الهادئة يوجد هيبة له ولبلاده.
عرفته عام 1980 وزهوت بمعرفته، خلال كل السنوات التي مضت، قابلته وهاتفته عشرات المرات ان لم أقل مئات، وفي كل مرة أقابله كنت أحرص ان أطلع على كل أخبار الدنيا وماذا يجري في العالم حتى لا أبدو أمامه أني لا أعلم، وهو أول ما يلاقيني يسألني سؤاله التلقيدي «مالاخبار؟».
في احدى المرات أتيت له لسيارته التي يقودها بنفسه، كما تعود، (وكان يجلس إلى جانبه شيخ وزراء الخارجية العرب وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد، وخلفه كان وزيرا خارجية البحرين وقطر السابقين الشيخ محمد بن مبارك والشيخ حمد بن جاسم ) وسألني «مالأخبار يانمر؟» فقلت له: هناك أخبار تقول ان سموك تزوجت مؤخرا للمرة الثانية، فرد مداعبا «يبدو ان من يروج لهذه الشائعات الشيخ حمد بن جاسم ـ الذي كان خلفه في السيارة ـ لأنه عملها ويريد مني ان أعملها»، وأردف قائلا «لا هذا كلام غير صحيح ولا يمكن ان أعملها وأتزوج على زوجتي».
إلى كل منتديات العالم ومؤتمراته حمل الأمير سعود الفيصل قضايا، ليست قضايا بلاده، بقدر ماهي قضايا العرب، وفي كل أزمة أو مشكلة عربية كنت تجده يذهب طائرا مقترحا وعارضا الحلول، وفي كل لجنة عربية لحل أي مشكلة كنت تجده عضوا فيها ان لم يكن رئيسا لها، منذ أيام أزمة الحرب الأهلية في لبنان إلى أزمة الحدود المغربية ـ الجزائرية.
كان على علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية وأزماتها مع العدو الإسرائيلي يستخدم ثقل بلاده ونفوذها بحكمة ليضغط من أجل حل مشكلة تعترض طريق الفلسطينيين. في الطائف عام 1982 رافقته وهو يرعى اجتماعات اللجنة الوزارية العربية السداسية لوقف معركة تدمير بيروت واحتلالها من قبل العدو الإسرائيلي وحصار الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وقواته هناك.
سعود الفيصل حقق نجاحات عديدة في قيادته للدبلوماسية السعودية على صعيد حل أزمات عربية متعددة فحين يتدخل بحكمته و»دهائه» يقتنع الآخرون بوجهة نظره، بمن فيهم مشاكسوه ومعارضوه، ولكن هؤلاء حين يعودون لزعمائهم تتبدل الأمور.


سعود الفيصل كان رجلا محبا لعمله، فعمله الدؤوب جعله يقضي معظم أوقات حياته في الطائرة متنقلا من بلد إلى آخر، وفي الطائرة كان يراجع الملفات مع أقرب مساعديه المرافقين معه ومنهم الدكتور خالد الجندان، والدكتور يوسف السعدون.
عرفته قليل النوم، يواصل عمله في الليل، في المكتب، في القصر، في الطائرة وفي الفندق، ومساعدوه يقولون لي «انه لا يرحم نفسه من العمل ولكنه يكون مبسوطا».
أذكر في مؤتمر وزراء الخارجية العرب التحضيري لقمة بغداد العربية في شهر ايار/مايو 1990 طالت جلسة الاجتماع النهائية وانتهت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعند انتهائها جاءني مرافقه الدائم منذ نحو ثلاثين عاما اللواء حاليا محمد النفيعي وأخبرني «الأمير ينتظرك الساعة السابعة صباحا في جناحه لانه بعدها سيغادر إلى الرياض»، وكنت متعودا ان التقي الأمير في معظم المؤتمرات ليعطيني «خلفية معلوماتية «عن مواقف المملكة في كل اجتماع، ولم أنم ليلتها حتى لا يفوتني الموعد، ذهبت إليه ووجدته يفطر جالسا إلى مائدة الأفطار البسيط، فبادرني على الفور «مالاخبار؟» فاجبته: ماعندي أخبار على هذا الصباح المبكر ولولا ان الموعد مع سموك لما أتيت لاني لم أتعود مثل هذه المواعيد المبكرة فانا أحب مواعيد الليل وآخره»، فرد «هيني صاحي بدري وليش ماتصحى انت؟» فقلت له أنا لم أنم حتى لا يفوتني لقاء سموك.
سعود الفيصل كان محبا للحياة ويحياها ، كانت تعجبه اللوحات الجميلة والأشياء والأماكن الجميلة، لذا عشق مدينتي «لوس انجلوس «و «باريس « وكان له داران جميلتان، وكان في باريس يقضي أوقاتا أطول لانها الأقرب لكل عواصم العالم التي دائم السفر إليها.
كان يهوى قيادة السيارات عبر الصحارى والجبال ومناطق الحياة الفطرية، لذا كان رئيسا لهيئة الحفاظ على الحياة الفطرية في السعودية، وسافر مرارا في أرجاء المملكة الواسعة بسيارته ومن سفرياته برا سافر إلى قطر وإلى البحرين.
قليلون يعرفون انه كان يحب «الظرف وخفة الدم والنكت «، وأذكر انه في احدى اجتماعات وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في جدة رويت للشيخ صباح الأحمد حين كان وزيرا للخارجية نكتة عند خروجه من جلسة الاجتماع لدقائق عاد بعدها للجلسة، وعند انتهاء الاجتماع وخروج الوزراء الخليجيين الستة بادرني الأمير سعود الفيصل قائلا «اتاريك عندك نكت ونحن لا نعرف» .
في السنوات القليلة الماضية خف نشاطه بسبب تزايد آلام المرض عليه ولكنه لم يمتنع عن تلبية أوامر مليكه في مواصلة العمل، وكنت أخاف عليه وقلت له مرة وأنا اتألم أكثر منه: لما تتعب نفسك سمو الأمير لما لا ترتاح؟ فرد قائلا «أتريدني ان استقيل؟».

سيدي سمو الأمير

منذ ان تركت وزارة الخارجية يوم 28 نيسان/ابريل الماضي لم يعد للمؤتمرات والاجتماعات عندي معنى وحتى اني لم أحضر واحدة منها.
وعندما ترحل من دنيانا إلى رحمة الله فان أمورا كثيرة لن يكون لها في حياتي معنى. فالى رحمة الله ياسيد الوزراء وأمير دبلوماسية العرب.

&
&