مأمون فندي

كان الحديث في بداية ظهور وسائل الاتصال الحديثة على أنها مصدر تعددية ثقافية وانفتاح ودمقرطة للغة والحوار ومعها المجتمعات والدول، في هذا المقال سأطرح عكس كل هذا وأتحدث عن «الفيسبوك» و«تويتر» على أنهما سجن انغلاق لغوي وثقافي وبالتبعية انغلاق سياسي وزينوفوبيا.


دخل العرب عالم الآيفون والإنترنت كعلامات للحداثة، ولكن ليس المهم هو الآيفون، وإنما المحتوى الذي ينقل من خلاله، كما أنه ليس المهم «الفيسبوك» أو «تويتر»، ولكن ما يكتب فيهما. فهل تغير المحتوى خلال الخمس سنوات الماضية، أي هل قالت العرب شيئًا جديدًا لم تقله من قبل، أو بلغة جديدة، أم أن القارورة جديدة وهو الشراب ذاته؟
المتابع لصفحات «الفيسبوك» والصحف الإلكترونية الجديدة لا تخطئ عينه، إن الصفحات تجذب مؤيديها، وبهذا يخلق ما يسمى بالإجماع الكاذب حول جدية الأفكار. فإذا دخلت مثلاً على صفحة لأحد مناصري الشاعر السوري أدونيس، وقرأت حوارًا على هذه الصفحة حول حديثه الأخير عن النص المقدس وتاريخيته إلى آخر ما قاله مما قتل بحثًا في مدارس اللاهوت في الغرب، وقلت إن ما قاله أدونيس لا يصمد أمام الربع ساعة الأولى في سيمنار لطلاب الدراسات العليا في مدارس اللاهوت في إيطاليا أو في مدرسة اللاهوت في هارفارد أو غيرها، لجاءتك ردود من مؤيديه بأنك على خطأ، ولو قررت الاستمرار في الحديث مذكرًا بمدرسة التفكيك من داريدا إلى فوكو إلى تلميذهم الراحل إدوارد سعيد وتحدثت عن الهرمنوتكس كمنهج، لظهرت كما شخص أصابه الخرف. هذا ليس لأن هذه النظريات غير موجودة، ولكن لأن عالم «الفيسبوك» لم يعد مصدر استلهام من ثقافات أخرى بل أصبح سجن لغة وثقافة لا تكرر إلا ذاتها ولا ينجذب إليها إلا من يؤيد الفكرة. وهذا ليس بغريب فالأساس في الإعلام التعبوي من ألمانيا النازية إلى الصين الشيوعية هو قولبة العقل ليصبح مواطنًا جديدًا. ونقد فكرة التنشئة السياسية وصناعة المواطن الجديد، كثير جدًا لا يتسع له مقال أو حتى كتاب كامل.


النقطة هنا تبدأ من مقولة مكلون الشهيرة إن الوسيلة هي الرسالة (medium is the message) التي يعرفها المبتدئ في مدارس الإعلام إلى كلام الفيلسوف الفرنسي بودريارد القائل بأن «حرب الخليج لم تحدث»؛ بمعنى أنها حدثت على الشاشات لا على الأرض، ونظريته عن أن الصورة أهم من الأصل وأن الصورة أكثر حقيقة من الواقع في عالم الإعلام الجديد.
الثقافة السردية في «الفيسبوك» و«تويتر» هي كما عنكبوت ينسج بالكلمات وتكرارها بأشكال مختلفة سجن للأفكار يصنع اختلافًا وهميًا لا علاقة له باختلاف الأفكار، وإنما هي الأفكار ذاتها في لباس سردي جديد تقف خلفه صورة فتاة جميلة أو مشهد بشع يهدف إلى تأييد فكرة بدائية من دون الزخرفات المصاحبة والتغليف البراق يكون الداخل بدائيًا، ولا يقبل في جلسة وجهًا لوجه أو تواصل مباشر حيث تنتفي الأدوات المصاحبة، وتلك نقطة فرعية يمكن لأي شخص أن يقولها ولا ترقى إلى مستوى تعميقها.


ومع ذلك، يبقى شيء لا بد من ذكره، وهو عقلية التسليع؛ أي تحويل الأشياء والبشر إلى سلعة بغض النظر عن الثمن، وهذا ليس بجديد ففي رسوم المستشرقين مثل الفرنسي دالكوا الذي رسم مشاهد من نساء الجزائر أو من رسموا لوحات من أفريقيا كانت دائمًا الصورة للمرأة البيضاء وفي خلفيتها خادم أسود. والأسود هنا ليس لشخصه وإنما لإظهار البيضاء وفي هذا عنصرية بغيضة، تستخدم السيدات والرجال معًا اليوم في «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» صورة للأطفال والزوجة أو الزوج وإنما كخلفية وليس لذاتها، وهذا ليس بالضرورة سلوكًا مدفوعًا بوعي وإنما كثيرا من دون وعي ولكن من سيدرسون هذه الصور فيما بعد سيكتبون ما نكتبه اليوم عن رسامي فترة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا والشرق الأوسط، ولكنه استشراق محلي الصنع تم قبوله بالتعود والتكرار ليس لقيمة جمالية فيه، وهذا يأخذني إلى نقطة أخرى حول الإبداع العربي في عالم «إنستغرام» و«الفيسبوك» و«تويتر».
غياب المعايير الفنية في صفحات تبدو وكأنها إعلانات تجارية، لا يسمح بتقييم للإبداع في «الفيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام»، لأن المتابعين لك يشيدون بإبداعك ولا داعي للمعايير، خصوصًا لو كان لديك مليون متابع بعضهم حقيقي وكثير منهم وهمي يقولون إن كل ما تكتب أو ترسم هو إبداع، فالطبيعي أن تصدق أنك مبدع. لكن هذا الإبداع المدعى لم يمر بصرامة النقد الحاكم لعلوم الجمال سواء في الشعر أو النثر أو الصورة. فقط هو جميل لأن مؤيديك يقولون ذلك وبتكرار ملح، وهنا تبدأ صناعة الانغلاق على المعايير وتبدأ حالة السجن الذاتي.


«الفيسبوك» وأزمة الإنسان الوحيد الباحث عن «سيلفي»؛ أي الذات فقط ولا غيرها في نرجسية منقطعة النظير، فلا يصبح «الفيسبوك» فقط سجنًا لجماعة على صفحة ما، وإنما سجن للفرد في صوره وسرده معلنًا عن أزمته الوجودية التي تكون الوحدة أحد مكوناتها.


ما ذكرته عن أدونيس في البداية واستخدام عقلية الزحام لإزاحة صرامة النقد خارج المشهد يقال عن الذين يمارسون تجارة الدين في تلك الوسائط الاجتماعية؛ إذ يكون لرجل بدائي أكثر من مليون متابع فقط، لأنه يبيع بضاعة رخيصة لا تخضع لمعايير الجودة مثل من يفترشون الشوارع ببسطة ملابس في العتبة في القاهرة.


بالطبع يستطيع شباب الباحثين الجري بفكرة «الفيسبوك» كأداة انغلاق، وقد تأكد التخلف بالنظر إلى بنية الوسيلة، فمثلاً نستطيع القول بأن فكرة الباطن والظاهر أو التقية يزداد تأكيدها من خلال ما يكتبه الشخص في العام وما يقوله على الخاص، وبهذا يسهم «الفيسبوك» في تطوير فكرة الأداء المسرحي السياسة في عالم تحكمه الديكتاتورية والسلطة الأبوية. ففي كل نظريات الديكتاتورية مثلاً كانت الصحيفة هي العمل الروائي، وتصبح الرواية من خلال تخفي الشخوص هي مصدر الحقائق الاجتماعية كما في مصر عبد الناصر ومحفوظ حيث كانت الصحف القومية يمارس فيها الكذب وتنقل الحقائق السياسية في الأعمال الروائية. «الفيسبوك» لم يقض على ظاهرة النفاق، بل زاد الفجوة بين المعلن والمخفي أو الظاهر والباطن ومنحنا تقية ما بعد حداثية من خلال الوسائل لا المحتوى.


التواصل مع الحضارات الأخرى من حيث الترجمة وغيره اندثرت ودخلت الصور لا المفاهيم كأسرع بضاعة تستورد ولا تحتاج إلى عناء ذهني، أضف إلى ذلك أن 144 حرفًا في «تويتر» أو أكثر لا تنتج عقلية نقدية بقدر ما تنتج عقلية الثرثرة المتقطعة.


المهم في هذا كله أن التوقعات والآمال النظرية التي كان يعقدها البعض على دور وسائط التواصل ما بعد الحداثية لدمقرطة المجتمعات التقليدية تبدو نتائجها الأولية وكأنها تأصيل للقدامة لا للحداثة وتساعد المفاهيم البدائية على البقاء التي ربما كان الاندثار مصيرها من دون «الفيسبوك» و«تويتر».