إياد أبو شقرا

معظم التحليلات والتعليقات العربية على الصفقة النووية التي أنجزتها «مجموعة الخمسة زائد واحد» مع إيران تمحوَرت حول العواقب السياسية لهذه الصفقة على العالم العربي. وكان بديهيًا عند معظم المحللين والمعلقين أن هناك «بطلين» للمسلسل الطويل الذي أثمر الصفقة... هما الولايات المتحدة وإيران. أما الدول المشاركة الأخرى – مع وافر الاحترام – فكانت تؤدي الأدوار الثانوية، وتعطي ما تحقّق مسحة من «الشرعية الدولية».
نعم، الحوار الحقيقي كان بين واشنطن وطهران. وكانت كل الأطراف تدرك ذلك من دون الاضطرار للمصارحة.


غير أن الأمر اللافت، بجانب «إطالة» المسلسل وادعاء وجود احتمال الفشل في التوصل إلى خاتمة سعيدة، هو إعلان الطرف الأميركي أن المفاوضات كانت «خاصة بالملف النووي الإيراني حصرًا» ولم تتعامل مع المواضيع السياسية الإقليمية الأخرى (!). وتكرار القول: إن الموضوعين منفصلان.


إنه لافت لأن الاعتراضات الإقليمية على البرنامج النووي الإيراني لم تثر مسألة المخاطر الجيولوجية – السيزمولوجية لوجود مفاعلات نووية في بلد زلزالي مثل إيران، مع أن مثل هذه المسألة تستحق أن تثار، ولا سيما بعد ما حصل في فوكوشيما بشمال اليابان. ومن ثم، فمن حق الدول الخليجية بالذات أن تقلق من حصول تسرّبات في مفاعل بوشهر قد تؤذي معظم دول الخليج، ولا سيما إذا كانت دوائر رصد الزلازل الإيرانية نفسها حذرة إزاء هذا الخطر. وبالفعل في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 أظهرت بيانات لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن زلزالاً بقوة 5.6 درجة وقع على مسافة 60 كيلومترًا شمال شرقي منطقة بوشهر، وأعلنت السلطات الإيرانية يومذاك في حصيلة أولية عن مقتل ما لا يقل عن 7 أشخاص وإصابة 30 بجروح.


إن ما يقلق دول الشرق الأوسط من برنامج إيران النووي هو استخدامه عسكريًا لغايات سياسية. وهذا ما يثير قلق الدول العربية وإسرائيل، وعلى الأرجح، تركيا أيضًا. ثم إن ما رشح من تقارير، ناهيك من تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين وفي مقدّمهم الرئيس باراك أوباما، يشير إلى أن واشنطن مستعدة للتعايش مع إيران نووية خلال فترة زمنية غير بعيدة، وأن ما تحقق مرهون عمليًا بعاملي الثقة وحسن النيات. بيد أن تاريخ التعامل مع ملف البرنامج النووي الإيراني لا يوحي بالثقة، ولم يكشف في يوم من الأيام وجهًا من حسن النيات. بل حتى بعد إنجاز الصفقة تردّدت هتافات «الموت لأميركا... والموت لإسرائيل» في شوارع طهران بمواكبة خطب عيد الفطر، وهذا فيما يخصّ أميركا وإسرائيل.
أما ما يخصّ المنطقة العربية فإن الأمر أدهى وأشد.. ذلك أنه بالتوازي مع الحروب التي تُخاض في العراق وسوريا ولبنان واليمن تحت إشراف «الحرس الثوري»، تشتد الحملات التحريضية والاستفزازية وتحتدم بلا توقف، عبر وسائل الإعلام الإيرانية – بما فيها تلك الناطقة بالعربية – تارة مُضرمة نار الفتنة السنّية الشيعية، وطورًا مستثيرة النعرات العرقية والمحلية والقبلية.


وهكذا، رغم الحرص الأميركي على طمأنة الجانبين الإسرائيلي أولاً، والعربي ثانيًا، فإن الصفقة النووية لن تغير في شيء علاقة واشنطن معهما، فإن أي مراقب حصيف يدرك في قرارة نفسه أن زجاج الثقة قد شُعب، وأن علاقات ما قبل الصفقة تختلف عنها بعدها.


كيف وصلت الأمور إلى هذا الوضع؟ وهل حُسمت بصورة لا عودة عنها؟
الأرجح أن السبب الأبرز في وصولنا إلى هذه المحطة هو قناعات الرئيس باراك أوباما. فأوباما مقتنع تمامًا بأن ما فعله ويفعله صحيح، لأنه رجل لديه قناعاته الآيديولوجية الصريحة في هذا الاتجاه. وهو أقل تأثرًا بفريق مستشاريه من سلفه جورج بوش الابن الذي كان الطرف «المتأثر غير المؤثر» بتيار فكري – هو تيار «المحافظين الجدد» – لديه نظرة متكاملة وينفذها فريق عمل نشط وفاعل في مختلف مواقع الإدارة الجمهورية في حينه.
هذه الصفقة، ومن خلفها الانفتاح على إيران، ومن ثم التطبيع معها، إذن في صميم تفكير أوباما. وسيكون من العبث توقع أي تغير في موقفه حتى نوفمبر 2016.


وهنا نصل إلى السؤال الثاني.. أي هل حُسمت الأمور بصورة نهائية؟ والإجابة عنه في اعتقادي إيرانية لا أميركية. المشكلة في طريقة تعامل نظام طهران مع هذه الخطوة، بتركيبته وهرميته وازدواجية إمرته وصراع أجنحته وتناقض مواقفه وحدود مناوراته.


هذا النظام، كما يخبرني من يُلم بشؤونه أكثر مني، يعرف ما يريده... لكنه لا يجيد بالضرورة الطريق الأمثل للوصول إلى مرامه. بل إن العكس صحيح، فهو لفرط ثقته بنفسه يبالغ ويفرط، ويهرب من التزاماته، ويتجنّب الالتزام بأي شيء تحت أي ظرف. وبالتالي، يرجّح المتابعون الملمّون أن يستغل النظام حماسة أوباما غير المتحفّظة للصفقة لاستغلال ثغرات أخرى فيها، بغية تحقيق مكاسب إضافية سياسية واستراتيجية ومالية من دون تبعات مقابلة.


في هذه الأثناء تباشر واشنطن عملية «تسويق» الصفقة عبر «هجمة علاقات عامة»، مباشرة وبالوساطة، مستعينة بالأصدقاء الدوليين كحال بريطانيا مع إسرائيل. وتنتظر المنطقة العربية مآل الأوضاع مع تبوء «الحرب على داعش» فجأة واجهة الملفات على حساب انهيار كيانات ما بعد 1920، بمواكبة تفاقم التأزم الديني والمذهبي.


لقد تعمّدت واشنطن، بخلاف المنطق، الفصل بين تقنيات الصفقة النووية والبيئة السياسية التي هي على ترابط حيوي بها. إلا أن شعوب الشرق الأوسط ما زالت تتمتع بذاكرة تاريخية جيدة، وكذلك بحد معقول من غريزة حب البقاء، رغم كل مشاكلها الكثيرة. وهذا يعني محاولة التأقلم مع ظرف غير مؤات بأقل قدر ممكن من الخسائر. ولكن إذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نجح حتى الآن نسبيًا في توصيل رسالته إلى الداخل الأميركي مستفيدًا من قوة أصدقاء إسرائيل في واشنطن، فما على الجانب العربي إلا الاعتماد على النفس وتعزيز وحدته الداخلية.