عبير العلي

ينبغي التعامل مع داعش "كمشروع" توضع له خطط واضحة وخطوات، وتنظيم متتابع للوصول إلى الهدف الذي نحرص عليه جميعا، من تحصين وطننا من شر هذا التنظيم وغيره، وتحصين أبنائنا من أفكار التطرف والتكفير

&


في بيان وزارة الداخلية الأخير في الثاني من شوال لهذا العام، أعلن فيه عن تمكن الجهات الأمنية خلال الأسابيع الماضية من الإطاحة "بتنظيم مكوّن من خلايا عنقودية مرتبط بتنظيم داعش، يدار من المناطق المضطربة في الخارج، وكان يهدف إلى تنفيذ عمليات إرهابية كبيرة".


وذكر المتحدث الأمني أن عدد الأشخاص الذين ألقت السلطات الأمنية القبض عليهم 431 شخصا، غالبيتهم سعوديون، مع بعض المشاركين من جنسيات أخرى مختلفة.


إضافة إلى التفاصيل المهمة التي ذُكرت في المؤتمر الصحفي الذي صاحب هذا البيان، فإنّ ما يلفت النظر في هذا الجزء المذكور أعلاه من البيان ثلاث نقاط سآتي عليها ببعض التعليق.


النقطة الأولى: أن هذه المجموعة كما كرر المتحدث باسم وزارة الداخلية في المؤتمر الصحفي أقرب ما يمكن وصفها به هو أنها "مشروع" والمشروع له دورة حياة تبدأ بالتنظيم ثم التنفيذ وتنتهي بتحقيق هدف ما قام على أساسه هذا المشروع. بمعنى أن هذه الخلية الإرهابية لم تقم بما تقوم به كنوع من العبث أو المغامرة غير المحسوبة أو مجرد خطوات عشوائية وتخبطات مرتجلة من أفرادها، بل إنه يقف خلفها رسم دقيق لخطط يسير عليها منفذوها، تتم بشكل عنقودي مترابط مع بعضه نحو الهدف الأوحد، يقوم بتنفيذ هذه الخطط مجموعات وخلايا تنشط في مهام محددة، وليس بالضرورة أن ترتبط ببعضها فيكفي ارتباطها بالمصدر الذي يعطي التعليمات ويرسم الخطط. وهذا المصدر يُدار من خارج البلاد، وهنا نتذكر ما قاله وزير الخارجية السابق الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- قبل قرابة عام من الآن في مؤتمر باريس: "إن خطر داعش عابر للقارات، وإن الالتزام بمحاربة هذا النظام التكفيري لا بد أن يمتد لعشر سنوات، وإنه يجب البدء بضرب معاقله في سورية".


النقطة الثانية: أن هذا المشروع الإرهابي التابع لتنظيم داعش كما وضح بيان الداخلية، يهدف إلى المساس بالوحدة الوطنية عن طريق، إما إشاعة الفوضى أو الطائفية أو بكليهما معا. وهذا ما نلحظه في اختيار عملياتها النوعية داخل السعودية من استهداف مساجد يؤمها الإخوة الشيعة لخلق شرارة عداء طائفي، وتوسيع هوة الاختلاف بين الطرفين السني والشيعي، لها ما يعززها في الخطاب الديني الموجود منذ سنوات. ثم استهداف رجال أمن وجعلهم أهدافا دون اهتمام بانتمائهم الطائفي؛ فالهدف هنا الآن هو إشاعة الفوضى بمثل هذه العمليات. وقد يأخذ التنظيم ضمن خططه استهداف بعض المقيمين خاصة من البعثات الديبلوماسية، أو بعض المواقع الحيوية.


النقطة الثالثة والأهم: هي في العدد الكبير الذي تم القبض عليهم هذه المرة "431" وغالبيتهم سعوديون. وهنا نتساءل: هل هؤلاء المقبوض عليهم هم فقط المنتمون إلى هذا التنظيم في الداخل؟ وماذا عن عدد المتعاطفين أو المؤيدين لهم؟ وكيف استطاعوا إقناعهم بالانضمام إليهم والقيام بعمليات إرهابية ضد وطنهم وأقاربهم ومن يشاركونهم الدين والإنسانية؟
الملاحظ في بعض العمليات الأخيرة التي أُعلن عن بعض منفذيها المنتمين إلى تنظيم داعش أنهم صغار السن، لم يسبق لهم السفر خارج المملكة، ولا يوجد لديهم سجل إجرامي. ولأن الإرهاب فكر قبل أن يكون تصرفا عمليا، فهذا التمكن من هؤلاء الصغار عديمي التجربة والخبرة، ومن كل هذا العدد المعلن والخفي من المنتمين لداعش في الداخل، دليلٌ واضح على تمكن هذا التنظيم من نشر أفكاره بين شريحة كبيرة ومتنوعة من الشباب من الجنسين، وجد له بينهم أرضا خصبة تتكاثر وسطها نبتته الشيطانية بأمان.


شاهدنا قبل فترة في أحد "الفيديوهات" المنتشرة لأحد المنتمين إلى تنظيم داعش من السعوديين ويوجد في مواقع الفتنة والاقتتال، يتحدث وسط حشد من الشباب ويوجه خطابه للموجودين وغير الموجودين معه في مكانه، يحث فيه من وصفهم "بالمجاهدين" بعدم ضرورة السفر إلى أرض القتال، وأن يبدأوا من الداخل حيث هم، وخاصة بأقاربهم ممن ينتمي منهم إلى وزارة الداخلية. وللأسف سمعنا في الأسابيع الماضية عمن يقتل والده ويقتل خاله وينتهك حرمة الشهر الفضيل مع حرمة الدم والقرابة، دون أي رادع إنساني أو ديني أو ذاتي.


نكرر دائما أن الفكر لا يقارع إلا بفكر مثله، وحدها العمليات الأمنية لا تنفع ولن تقضي على مثل هذه الأحداث ومن يؤمن بها. بل هي مسؤولية الجميع خاصة التعليم والأسرة. وعليه ينبغي التعامل مع داعش "كمشروع" توضع له خطط واضحة وخطوات وتنظيم متتابع للوصول إلى الهدف الذي نحرص عليه جميعا، من تحصين وطننا من شر هذا التنظيم وغيره، وتحصين أبنائنا من أفكار التطرف والتكفير التي يستغلها الكثير لتحقيق مصالحهم، والتعامل مع انسياق الكثير من أفراد المجتمع مع الفكر الداعشي كنمط من "أركيولوجيا" الوعي الجمعي الذي تحدث عنها كثيرا الفيلسوف ميشيل فوكو باستخدام القاعدة التي تنص على: "البحث عن أصول الأشياء عندما انعقدت وتشكلت في صورتها الأولى" فحينما نعلم أسباب وجود تلك القناعات لدى المشرعين لداعش والمؤيدين لها والمحرضين للشباب بالانضمام إليها، وانتهاج التطرف والتكفير في حياتهم نستطيع تفسير كثير مما يحدث حولنا والوصول لحلول ناجعة لعدد من مشكلاتنا، وهذا ما قد نتناوله في جانب مختلف في المقال المقبل.
&