منى الحمودي
دأب فقهاء وشيوخ وهميون على المبالغة في صب الفتاوى في البحر الذي تعوم فيه الفتاوى ضد حدود العقل والمنطق، إذ إنها تثير الضحك والاستغراب، والسخرية والجدل بين الفقهاء والناس، بل إنها تنعكس سلبياً على المجتمع ويُصبح سخرية ودليل تخلف في العديد من مناطق العالم.
معظم الفتاوى تم نسجها مع واقع الحياة، وتنوعت بين الأمور الدينية والسياسية والنساء والرجال، والتعامل مع الأبناء والوالدين، وغيرها من الأمور التي تتضمن مضامين «سخيفة وغريبة» تدفقت في مجرى المجتمعات بشكل كبير في الآونة الأخيرة من منابع متعددة لا مصدر لها.
وتزايدت في الآونة الأخيرة حاجات الناس للإفتاء في مختلف الأمور، وقد يعتمد الشخص على فتوى من طبيب طلب منه عدم الصوم لمرض ما، وتجد من يفتي دون علم لمجرد أن سأله صديق عن أمر ما فأفتى مستنداً إلى مقولة من شخص ثقة أو لما سمعه، وما أكثر المفتين في هذا الوقت بالذات، وقد تجرأ البعض على الإفتاء في مسائل محسومة ومعروفة، لا يصح أن يفتي فيها إلا ذوو العلم والمعرفة، وحتى لا نقع في الحرام والمحرم، ونحرم ما هو محلل ونحلل ما هو محرم، لا بد من العودة إلى المصادر والمنابع الأصلية للإفتاء والنهل من مناهل المعرفة الحقة المستندة إلى العلم والبينة، حتى لا نقع في المحظور، وهذا أمر يحتاج إلى تكاتف الجميع وتمتعهم بالوعي نظراً لخطورة هذا الأمر وحساسيته.
التوظيف الخاطئ
يقول مايد محمد، إن العديد من الأشخاص يعتمدون في الوقت الحالي على الفتاوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لسهولة وسرعة الحصول على الإجابة، لكن الأمر المخيف في الأمر هو الحصول على الفتاوى فيما يخص الجهاد والانضمام للتنظيمات السرية عن طريق بعض المحسوبين على المفتين، وهم بالأصل ليس لهم على بالإفتاء، إنما وجدوا وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للشهرة وإثارة الفتن وزعزعة الأمن لدى بعض الدول في مختلف الأمور.
ومن أبرز هذه المواقع هي «تويتر» و«انستجرام»، تم توظيفهما بشكل خاطئ فيما يخص المواقف الشرعية والإفتاءات، حيث يدعم الكثير منها جهات وتنظيمات إرهابية، وهي جهات تم توضيح الموقف الشرعي من الانتماء إليها ودعمها، أو الترويج لها. وأضاف أن الأمور التي يكون فيها لبس على أي شخص، بالإمكان إيضاحها له عن طريق المشايخ المعتمدين في وسائل الإعلام، وعبر الخطب والمنابر وحلقات الذكر والتدريس، إضافة إلى ذلك فإن المحاضرات تُقام بشكل مستمر في الدولة بواسطة مشايخ وأكاديميين يمتلكون الفقه الشرعي الصحيح، لذلك على الناس الاعتماد على الفتاوى من الجهات الرسمية في الدولة، التي لن تنأى عن توضيح أي مسألة شرعية لأي شخص.
البعد عن المنطق
ويرى عبد الرحمن علي سرحان أن هناك خطراً كبيراً ممن يدعون أنهم دُعاة ومفتون في الشريعة الإسلامية، ومنهم من يقوم بتشويه صورة الإسلام والاستهزاء به بأقوالهم وأفعالهم، وكل ذلك يتم باسم الإسلام، ولا يدحض هؤلاء إلا الموقف الجاد والقوي ضدهم من العلماء والجهات المختصة، حتى لا ينتشروا انتشار الطاعون في المجتمعات، مشيراً إلى أن كتب الإفتاء والمواقع الإلكترونية للجهات المختصة والمشايخ والعلماء الكبار متوافرة، وهنالك أرشيف واسع لهذه الإفتاءات يمكن للأشخاص اللجوء إليها في أي وقت وأي زمن. وأضاف: لا تخلو وسائل التواصل الاجتماعي من الإفتاءات والآراء والتعليقات الصادرة عمن يدعون أنهم فقهاء وعلماء في الدين، والتي في أغلب الأوقات تكون غريبة ومُضحكة وبعيدة عن المنطق وما يستوعبه العقل، فهي تُبيح وتُحرم وتضع حلولاً غريبة وتحدد شروطاً أغرب. من ناحيتها، تقول فاطمة النقبي، إن العديد من الفتاوى في وسائل التواصل الاجتماعي تُنسب إلى علماء ومشايخ لهم باع طويل في الإفتاء عبر الحسابات الوهمية، ويتم نفيها من قَبلهم، إلا أنه يتم الاستمرار بتداولها بشكل كبير، من قِبل المعارضين لها والمؤيدين، بل هناك من يشتم ويدعي جنون المُفتي، والذي في نهاية الأمر لم يتعرض لهذه المسألة ولم يُفتِ فيها.
خطورة الفتوى
يقول الشيخ محمد اليدالي الدين، المستشار بإدارة الفتوى الشرعية في دائرة القضاء بأبوظبي لقد شاع في هذه الآونة الجرأة على الفتوى، حيث أصبح كل من هب ودب يفتي ويقول على الله بلا علم، حتى أصبح يتجاسر على الفتوى عامة الناس من الذين لا يحفظون آية من القرآن لكريم ولا حديثاً من أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد على دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول لأحد من أهل العلم، بل إن هذا المتجاسر قد يكون ممن لا يستطيع أن يقرأ نصاً من قرآن أو سنة قراءة صحيحة سليمة من الأخطاء. وتراه ينشر فتاواه وآراءه في الدين عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الحديثة بين العامة التي لا تميز بين الصحيح والسقيم، ليضل الناس عن سبيل الله أو ليكتسب بذلك شهرة ومكانة علمية عند الناس.
تأصيل وعلم
وأوضح اليدالي أنه يتطلب الكلام على ذلك التعريف بالفتوى، فهي تبين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه من غير إلزام به، وهي الإخبار عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله، صلى الله عليه وسلم، بأنه أوجب الأمر المستفتى عنه أو حرمه أو أباحه، فالمفتي هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله. وقيل هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعاً بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه. فالفتوى أمرها خطير وشأنها عظيم في الإسلام، وبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم. فإذا أفتى مفتٍ في مسألة بما يخالف حكم الله فيها، فقد كذب على الله تعالى وعلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، وقد حرم الله سبحانه وتعالى الكذب بصفة عامة، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر كل أولئك كان عنه مسؤولاً). وحرم بصفة خاصة القول عليه تعالى بغير علم، وقرنه بالفواحش والشرك به، فقال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). ومن قال على الله تعالى أو على رسوله، صلى الله عليه وسلم، بغير علم متعمداً، فقد ارتكب كبيرة عظيمة، ودخل في الوعيد الشديد، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه المتواتر أنه قال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». فالفتوى بغير علم حرام، بإجماع أهل العلم؛ لأنها تتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتتضمن تضليل الناس، وكل ذلك من كبائر الذنوب. وقد أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتاً في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه». وقال مالك: «سمعت ابن هرمز يقول ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يروي قال لا أدري». وقد سئل الإمام مالك عن أربعين مسألة فما أجاب إلا عن خمس منها.
الورع والعلم
وإضافة لما تقدم، فقد ذكر أهل العلم من الشروط والآداب العامة المطلوب توافرها في المفتي أن يكون ذا ورع، يمنعه من الميل إلى الهوى، وأن يستحضر النية محتسباً لله تعالى في فتواه، وأن يكون عارفاً بالأدلة الشرعية النقلية والعقلية، بصيراً بأقوال العلماء واختلافهم، مطلعاً على مذاهبهم ومشاربهم، عارفاً بالواقع، ذا فهم صحيح، لا يتسرع في الفتوى حتى يطلع على كل جوانبها ويفهمها وقال ابن عابدين الشامي، إن بعض أهل العلم شرط تيقظ المفتي وفطانته، قال: وهذا شرط في زماننا، فلا بد أن يكون المفتي متيقظاً يعلم حيل الناس ودسائسهم، فإن لبعضهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزمان. وقال بعضهم: ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه في صورة حق، بل هذا أغلب أحوال الناس. هذا وقد ذكروا أيضاً أنه ينبغي للرجل ألا يفتي حتى يتيقن في نفسه أنه أهل لذلك، ويراه الناس أهلاً. وأن يكون ميسراً غير معسِّر، لا يتساهل في فتواه، ولا يتشدد فيها، فليس تحليل الحرام بأشد حرمة من تحريم الحلال، وليس المتساهلون في هذه الأيام بأضر على الدين والدنيا من المتشددين، فلا بد من الاعتدال والوسطية، بألا يكون المفتي موسعاً يحل كل شيء حتى يكاد يلغي التكاليف الشرعية، ويتطاول على الضروري من الدين، ولا يكون متشدداً يضيق على العامة في أمور دينهم التي لهم فيها مندوحة، فيفسد عليهم أمور معاشهم، وينفرهم من دينهم، ولربما أصدر لهم فتاوى ترهقهم وتحملهم من البلاء ما لا طاقة لهم به، وربما جرت إلى الفساد في الأرض وأهلكت الحرث والنسل.
التعليقات