نازك سابا يارد: تذكر الناقدة سميرة أغاسي أن الهدف الأساسي في كتابها الصادر بالإنكليزية عن منشورات جامعة أدنبره في عنوان «كتابة بيروت: ترسيم المدينة في الروايات العربية الحديثة» هو تبيان كيف استخدم الروائيون المدينة رابطين بين الواقعي والمتخيل ليقدموا فهمهم الخاص لبيروت. اختارت أغاسي الروايات التي تتجوّل شخصياتها في شوارعها، فتمّ ترسيمهم لبيروت من وجهات نظر مختلفة كوّنتها ظروف اجتماعية، اقتصادية وثقافية مختلفة. فكل شخصية تبدع ما تتخيله عن المدينة، كما تطبع المدينة الأفراد الذين يعيشون فيها.

قسّمت أغاسي دراستها إلى خمسة فصول، أوّلها: «ثنائي القرية - المدينة: حدود مهدّمة»، وفيه تركّز على ثلاث روايات: «حي اللجا» لبلقيس حوماني، «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد و «خان زادة» للينا كريدية. في «حي اللجا» تبيّن أغاسي تمسك سكانها بعادات قراهم الجنوبية وتقاليدها وقيمها، إلا أنهم في الوقت نفسه بدأوا يتغيرون، إذ يتبنّون بعض مظاهر المدينة. فكما أن العناصر القروية طبعت المدينة، تركت المدينة أثرها في السكان القرويين. وفي «طواحين بيروت» وفّرت المدينة للبطلة دراسة وحرية لم تتوفّرا لها في قريتها، إلا أن المرأة في بيروت ظلّت ضحية الرجال المحتفظين بذكوريتهم العنيفة وتقاليد الماضي والقيم الأخلاقية البطريركية. أما في «خان زادة» فترى الراوية أن المدينة فقدت استقرارها بسبب انتشار القرويين فيها، ولم تصبح «نظيفة» إلا بعد أن غادرها المهجرون الجنوبيون. فتُحيي ماضي بيروت رغبة منها بالعودة إلى استقرار متخيّل أجمل بكثير من الواقع. ومع ذلك، تستخدم هذه «البيروتية التقليدية» الإنترنت وغيرها من الوسائل الحديثة. إلا أن صراع الماضي - الحاضر، والتقليدي - الحديث في نفوس بطلات الرواية أفقدهن إمكان التمتع بهوية سليمة.

بلاغة التجول

موضوع الفصل الثاني «بلاغة التجوّل حسب الخرائط مقابل السير الحر». فيه تتناول أغاسي ثلاث روايات أيضاً: «تقنيات البؤس» لرشيد الضعيف، «الوجوه البيضاء» لإلياس خوري و «بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم. يركّز هذا الفصل على سير المشاة لاختبار المدينة. فشخصيات هذه الروايات تعبّر عن المدينة من خلال تنقلها فيها، وبلغتها الشخصية الخاصة. وعليه تصبح المدينة كائناً مجزّأً، متعدّد البُعد، متناقضاً، موقّتاً، يحتمل تأويلات كثيرة ومختلفة. عنوان «تقنيات البؤس» يوحي بالمهارات التي يكتسبها الناس ليتمكنوا من العيش في بيروت أثناء الحرب.

ورشيد الضعيف يصف مفصلاً ما يمرّ به هاشم، بطل الرواية: الشوارع، المباني، الأرصفة، المقاهي، أكوام النفايات، براميل الماء وسيارات السرﭭيس. إلا أن البطل يكتفي بتسجيل ما يرى ويترك للقارئ أن يستنتج من وصفه القذارة والفوضى في شارع الحمراء، مثلاً، أن ما كان في الماضي ملتقى المدينيين الأغنياء تحوّل إلى مكان للقرويين الفقراء، وقد أصبحت المدينة بكاملها مأوى لملايين الجرذان. كذلك يعيش روائح المدينة وضوضاءها أكثر مما يهتمّ بشخصياتها، كأن الروائح والضوضاء أصبحتا بطلة السرد. فالضعيف يسجّل انطباعات البطل أكثر من الحوادث، وفي مدينة تعاني ويلات الحرب، يبرز ذلك شعوره بالعزلة التامة. أما خليل في «الوجوه البيضاء» فيتجوّل في شوارع المدينة غير آبه بالخطر بعد أن قُتل ابنه واختفت من الحيطان ملصقاته كشهيد وراء ملصقات الإعلانات. فيعي خليل أن الشهادة فقدت قيمتها في مدينة قُتل فيها هذا العدد الهائل من الناس ودُمِّرت المنازل والمباني. وحين يعجز المحقق في جريمة القتل عن أن يهتدي إلى مرتكب الجريمة، ترى أغاسي أن ذلك يؤكد انتصار المدينة على المحقق، واللامعقول على المعقول، والفوضى على النظام. أما في «بيروت بيروت» فيتنقل بطلها الصحافي في بيروت الغربية التي عرفها في الماضي حين كانت تستقطب الأغنياء والمشاهير وقد أصبحت في الحرب مدينة بروليتارية للفقراء والميليشيات واللصوص والمجرمين. وإذ تلاحظ أغاسي أن رواة الروايات الثلاث من الكتاب ترى أن ذلك يوحي بالعلاقة الوثيقة بين الكتابة والتجوّل، كأن المدينة والرواية كلتيهما بمثابة نصوص قابلة لتأويلات المتجوّل والكاتب.

في الفصل الثالث «جنسانية المدينة: ضمّ اللحم والحجر» تتجوّل النساء في المدينة ممتعات بحريتهن ومغالاتهن الجنسية. في «سنة الأتوماتيك» لحسن داود استُبدل فرن الحطب بمخبز أوتوماتيكي لا يحتاج إلى عضلات الرجال في تحطيم الحطب لتغذيته، فيتوقّع صاحب الفرن أن تضعف أجسام الرجال مع الوقت بحلول التكنولوجيا محل الحاجة إلى القوة الجسدية، ما يؤدي إلى تأنيث الرجال، ومن ثمّ تأنيث المدينة نفسها. وبات عمال الفرن القرويون يتمتعون باختلاس النظر إلى النساء اللواتي يدخلن الفرن، إذ أصبحن بالنسبة إليهم أجساداً تثير شهوتهم، كما أن التصاق المباني سهّل على الرجال مراقبة النساء في الشقق المتجاورة ومراقبة خلعهن ملابسهن ومضاجعة أزواجهن لهن. أما كاملة في «حكايتي شرح يطول» لحنان الشيخ فتعي الاختلاف الشاسع بين حياة القرية التي نشأت فيها وحياة المدينة التي انتقلت إليها فوفّرت لها الحرية وتمتعها بجسدها وإحساسها به. وفيما تتجوّل كاملة في الشوارع وتتبع أهواءها وغرائزها، لا يغادر زوجها البيت، ما يظهر انقلاب أدوار الرجل والمرأة. وكذلك رواية «دايماً كوكا كولا» لألكساندرا شريتح وفيها تتحدى عبير المحرمات وتحرّر نفسها وجسدها من القيود التي فرضتها عليها أسرتها التقليدية، فيما تتدرب ياسمين على الملاكمة رافضة الضعف الذي يلصق بالمرأة، متحدية ثنائية ذكر - أنثى، ضعيف - قوي، كما يتحدى هذه الثنائية الملاكم الذي يحلق شعر ساقيه ويرتدي كفين زهريي اللون. فعبير تقرن الدين والعادات والتقاليد بالتخلف الذي تحتقره على نقيض الحداثة التي تحبّذها.

مدينة مؤجلة

الفصل الرابع، «الانتقال بين الواقعي والمتخيّل: بيروت مؤجّلة» يبيّن أن بيروت ليست مجرّد مدينة من الآجر والطين، إنما أيضاً مركّب يراه الأشخاص، لا سيما العرب، من خلال رغباتهم وأيديولوجياتهم. لشعورهم بأن المدينة ملكهم يلبسون المدينة معنى قاطعاً يسبب الخيبة لبعضهم والرضا لبعضهم الآخر. في «بيروت 75» لغادة السمان تخيّل البطلان السوريان فرح وياسمينة أن بيروت مدينة تمنحهما ما حرما من حرية وشغف ورغد العيش، فواجها وقعاً مختلفاً كل الاختلاف، حيث تضطرّ ياسمينة إلى ممارسة الدعارة فيقتلها أخوها غسلاً للعار، فيما يتحوّل فرح إلى خنثى آملاً بأن يحقق طموحه كمغنٍّ، ليصاب في النهاية بالجنون ويودع المستشفى.

فالرواية تبين الفرق بين المدينة المتخيلة والمدينة المعاشة، ذلك أن للمدينة حياتها الخاصة التي تحدّد حياة فرح وياسمينة في شكل يختلف تماماً عن تصورهما لها. وهذا على نقيض صورة بيروت في رواية مؤنس الرزّاز «أحياء في البحر الميت»، حيث يتغنى ببيروت التي تمثل الحرية والثورة في عالم عربي قاحل يتحّكم به حكام مطلقون فاسدون وظالمون. تحتفل الرواية ببيروت كمدينة للحياة والنشاط والعمل، للمقاومة والحرية اللتين لا وجود لهما في أي بلد عربي آخر. وتلفت الناقدة إلى أن الرواية خالية من أوصاف الأشخاص والأماكن، مدينة غير واقعية، مع أن الكاتب يذكر أسماء أماكن حقيقية، إلا أنه يركّز على ما تمثله المدينة بالنسبة إليه في توقه إلى الحرية. أما رواية «بيروت: البكاء ليلاً» لشوقي الحكيم فعن بيروت أثناء الحصار الإسرائيلي، حيث أضحت المدينة المحطمة صورة لسكانها الذين حطّمهم الجيش الإسرائيلي. على رغم ذلك، لم يشعر بطلها بأنه محاصر في هذه المدينة أكثر من سكان المدن العربية الأخرى الخاضعة للظلم والمخابرات. ورواية أخرى تظهر تأثير الحرب في راويها هي رواية «المستبد» لرشيد الضعيف حيث فقد بطلها توازنه، فهو وحيد وخائف، والهذيان طريقته الوحيدة للتعامل مع «تروما» الحرب. وبدلاً من التجول في مدينة خطرة بسبب القصف يتجوّل في عقله الخائف، يقولبه الخيال والرغبة، فيجد الملاذ في غياهب عقله.

في الفصل الخامس والأخير، «التنقيب في المدينة: آثار خارجية وداخلية» تبيّن أغاسي استحالة الفصل بين بيروت وماضيها الأسطوري، حيث يتداخل الجغرافي والتاريخي. وتبيّن ذلك من خلال رواية «بيريتوس» لربيع جابر، و «حارث المياه» لهدى بركات و «بيروت 2002» لرينيه الحايك. بطل رواية جابر يتجوّل في ما تحت مدينة بيروت التي انتقل إليها الناس نتيجة الحروب والكوارث الطبيعية، لأن تاريخ بيروت ارتبط منذ القدم بالعنف والدمار، ولا يزال.

وتبيّن أغاسي أن تذكّر البطل لهذا الماضي المؤلم يشكل الخطوة الأولى للتخلص منه، ويكشف في داخله عن عوامل نفسية خفية. فرحلته تحت الأرض تعلّمه ألّا يمحو الماضي، وأن الأحرى به أن يتغلب على مشكلاته. أما بطل «حارث المياه» فمتمسك بوسط بيروت المدمّر، يعيش فيه وحيداً في دكان أبيه تاجر الأقمشة الثمينة. يفرّ البطل إلى الماضي الذي يمثله والده الميت والأقمشة التي لم تعد صالحة للبيع. ويتنقّل البطل في ذكرياته عن المدينة التي يراها من خلال أفكاره، ولجوئه إلى قصص جنسية ينم عن حلولها محل المتعة الجنسية التي لم تتوافر له. على خلاف الروايات السابقة تدور رواية رينيه الحايك في بيروت ما بعد الحرب. أبطالها طلاب برجوازيون في الجامعة الأميركية، ينبذون الماضي المؤلم، لا يبالون بمشكلات السياسة والمجتمع، منغـــمسين في تناول الكحول والمخدرات والعلاقات الجنسية. وترى أغاسي في موقفهم هذا استراتيجية دفاعية عن النفس ضد ماضٍ مذلٍّ كامن في أعماقهم. إلا أن البطل لا يلبث أن يعترف بالماضي الذي تنكر له، ويواجه حاضره العقيم ليتعامل مع العالم حوله.

ثم لا بد من التنويه بنظرة الناقدة الجديدة إلى الروايات التي تناولتها وبعمق تحليلها لها. أكتفي بأمثلة قليلة على ذلك. حين تبيّن أن الضعيف في «تقنيات البؤس» لا يذكر عن أشخاص الرواية إلا مهنتهم كأنهم ليسوا أفراداً كاملين، ترى أن ذلك يعكس علاقات الشخصية المفككة مع الناس، واهتمامها بوظيفتهم أكثر من تفاعلها معهم تفاعلاً شخصياً ذاتياً. أما التكرار والاستطراد في رواية الرزّاز فتراهما الناقدة صورة لشكوك البطل العلمية والوجودية لتردّده، فيما تبيّن أن أسلوب الضعيف الموجز يعزّز جو الصمت والقهر في المدينة أثناء الحرب. وحين ينزل بطل «حارث المياه» إلى الآثار تحت كاتدرائية مار جرجس، تعتبر أغاسي ذلك رمزاً لهبوطه في لا وعيه، حيث يحاول النبش في ذاته القديمة من خلال بحثه في ما بقي من المدينة الأثرية. فضلاً عن ذلك نجدها تقارن دوماً بين الروايات التي حلّلتها.

وفي الختام، لا بد من التنويه بقيمة هذا الكتاب الطريف والعميق، وبالجديد الذي أضافه إلى دراسات الرواية العربية. فمن خلال تحليل أغاسي للروايات، أظهرت أن بيروت «بيروتات» متعدّدة بتعدد نظرة الأدباء إليها وأصولهم التي تحدّروا منها، ومعتقداتهم وآرائهم ومـشاعرهم تجاهها. «إنها مدينة ذات طابع مديني وحداثي خاصين بها تتخلّله عناصر تاريخية، اجتماعية، يومية، دينية وثقافية، مدينة في تحوّل دائم... وتبيّن الدراسة أن حداثة بيروت ليست جديدة، لقد تخيّلها ومارسها الناس في أشكال مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة. فضلاً عن أن تقارب مبانيها يناقض فكرة أن المدن تتــسم بإمكانية اختلاء الفرد».