باسم الجسر

عرض التلفزيون اللبناني فيلما قصيرا عن وجه لبنان الجديد (أو الحضاري الحديث، إذا شئت) ظهرت فيه الواجهة البحرية الجديدة للعاصمة ببناياتها الجميلة الشامخة الشبيهة بميامي، ووسط المدينة الذي أعيد بناؤه وترميمه بعد الحرب ويكاد يشبه أرقى شوارع المدن الكبرى في العالم بمحلاته التجارية، غير أن نشرة الأخبار التي تتبع هذا الفيلم الدعائي المفرح والواعد، تكشف، لسوء الحظ، عن وجه آخر للبنان. الوجه السياسي الحزبي الطائفي السلبي البشع، الذي يعطل عمل مؤسسات الدولة، الرئاسية والحكومية والنيابية. ووجه لبنان الإداري - أو البلدياتي - الذي يجعل من شوارع العاصمة وغيرها من المدن والقرى مكبات للنفايات ولا تجد الحكومة ولا البلديات حلا شاملا لها.

وجه لبنان «الأمني» حيث الخطف والجرائم عناوين يومية في وسائل الإعلام. وجه لبنان العشرين طائفة المتعايشة والمتنافسة والمختلفة على اقتسام الوظائف والثروة الوطنية، والعشرين أو ثلاثين حزبا وتنظيما تتنازع على السلطة. والدولة التي لا تبسط سلطتها على كل أراضيها، ولا تملك حق قرار الحرب والسلام.. لبنان المؤسسات الإدارية والرقابية الحديثة والعاجزة، لسوء الحظ، عن قطع دابر الفساد.


هناك يقظة شبابية وطنية لا طائفية بات صوتها يرتفع منددة بالأوضاع السياسية السلبية السائدة، وتنزل إلى الشارع متظاهرة مطالبة بالإصلاح. وآخر بادرة لها كانت تلك المظاهرة التي اصطدمت بقوى الأمن بالأمس.
والسؤال هو: أي وجه هو الوجه الحقيقي للبنان؟ أو بصيغة أخرى: هل سيقع لبنان «الواقف على شوار» - كما يقول المثل- في هاوية العنف والتقاتل والحرب الأهلية كبعض الدول العربية؟ أم أن اللبنانيين سوف يتمكنون من تجاوز العقبات السياسية والحزبية والطائفية التي تكاد تشل الحكم والإدارات العامة؟ أم أن هذه الحالة المحبطة والواعدة معا، سوف تستمر طالما أن مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى المنطقة العربية قائم.


لولا أخطاء السياسة الأميركية في المنطقة وأكبرها احتلال العراق، لما آل الصراع في المنطقة إلى ما آل إليه، يقول آخرون. بل لولا المشروع الإيراني لما بعث النزاع السني - الشيعي، الذي يزداد حدة، يوما بعد يوم. كل هذا صحيح. بل لولا وجود إسرائيل، في أساس محنة الشرق الأوسط، لما كانت الانقلابات العسكرية والأحزاب العقائدية التي تؤمن بصنع التاريخ وحل كل المشاكل انطلاقا من آيديولوجية معينة. وهذا صحيح أيضا..


.. ولكن كل ذلك بات من الماضي. وما تتعرض له شعوب ودول المنطقة والعالم العربي، من أخطار حقيقية هو غير كل هذه «الأمراض السياسية». كما يقول توماس فريدمان في مقال أخير له، بل الأخطار الحقيقية التي تهدد الشرق الأوسط هي خطر التصحر وشح المياه وتزايد عدد السكان الكبير المهدد بانتشار البطالة واقتصاد ما بعد النفط.


بعد شعار «الخلاص» بواسطة الآيديولوجيات القومية والاشتراكية، ارتفع شعاران في العالمين العربي والإسلامي وهما الديمقراطية أو الدين. إلى أن كان الربيع العربي وشهدت دول عربية عدة تراجع دعاة الديمقراطية الليبرالية أمام العسكر بوجه الأحزاب والتنظيمات الإسلاموية التي لجأت إلى العنف والإرهاب لتحقيق أهدافها وراحت تتقاتل قبل أن تصل إلى الحكم.


وبانتظار «أعجوبة» ما، ولسوء حظ الشعب اللبناني وشعوب عربية وإسلامية أخرى، سوف تطول فترة انتظارها في عتمة هذا النفق المصيري المظلم.