يوسف الديني

أكتب عن هيكل مع حفظ الألقاب، متجرّدًا من حمولة الهلع من نقد شخصية ساهمت في فشل المشروع القومي الناصري أكثر مما صنعه الأعداء الذين يتكئ عليهم مخيال هيكل السياسي، الذي لا يعدو أن يكون حكواتيًا نبت في زمن الخطابات الشفوية، متشربًا من ثقافة المستعمر التي تسكنه حتى بعد رحيل الاستعمار، الذي لا يعتبره هيكل كذلك إلا إذا كان غربيًا، في حين أنه من دعاة الاستعمار التوسعي الذي تقوده إيران في المنطقة وبشكل فجّ لم يبدأ الآن بعد تصريحاته الكارثية التي تعرض فيها للسعودية، بل ابتدأت منذ ولادة مخياله السياسي الذي لا ينتمي إلى الواقع وإنما هو أقرب إلى الحكواتي الذي ينسج قصصًا مركبّة على الواقع، مثل أبطال هيكل في كل كتاباته منذ كتابه عن حرب الخليج إلى أحلام اليقظة إلى تشويه تاريخ مصر الحديث في سبيل تجميل التجربة الناصرية التي لم تسلم من مخيال الحكواتي المؤدلج.


لا يمكن أن يثق عاقل بإرث هيكل التاريخي ولا أقول مواقفه وتناقضاته السياسية، فهي لا تؤخذ بجدية، فالرجل يؤرخ لذات مأزومة بناها بشكل هوسي، والقارئون لكتبه يدركون ذلك من أول صفحة، فزعماء العالم من عبد الناصر إلى السادات إلى محمد الخامس إلى أمراء الخليج يركضون إلى الهاتف هلعين منتظرين اتخاذ موقف يمليه هيكل المؤرخ الذي لا يحيل إلا لنفسه دون مراجع أو روايات عن ناصريين عاشوا التجربة معه.


رؤية هيكل للخليج لم تبدأ من حرب اليمن التي كانت سبب الضجة لتصريحاته الأخيرة، فهو لم يعرف الخليج أبدًا وحتى كتابه الشهير عن حرب الخليج مليء بالأخبار المغلوطة والمختلقة بل والمضحكة، ومن ذلك ما زعمه من اجتماعه بالملك فيصل في الإسكندرية 1971 لمدة تفوق ساعتين.


هذه الرواية الأقرب إلى التهريج السياسي كما يقول المؤرخون حكايتها تكفي لإبطالها، تصلح لأن تكون مفتاحًا لفهم جنون العظمة التي تحرّك هيكل في النجاح كحكواتي لا يمكن أن ينجح في زمن تدفق المعلومات وثورة الاتصالات والتقنية بما أتاحه من أدوات نقدية ومقارنات ستعجل برحيل هيكل كصانع للأوهام الكبرى قبل رحيل الجسد بعد عمر طويل.
هيكل يتحدث في كل كتبه فقط عن الزعماء كمستودع أسرارهم وجليسهم الخاص ومقض مضاجعهم في حال إصراره على موقفه المضاد لموقف هذا الزعيم أو ذلك الحاكم أو ذلكم الأمير، وهذا لا يقتصر على الراحل جمال عبد الناصر، بل يشمل توليفة من الأسماء المتباينة كمحمد رضا بهلوي شاه إيران، وأنور السادات، والملك حسين بن طلال، والملك الحسن الثاني، وغيرهم. والجامع بين كل هؤلاء أنه لا يستطيع أحد التحقق من مزاعم هيكل مؤرخ الغياب والشاهد الأخير للأموات.


وإذا تجاوزنا الجانب المختلق من تأريخ هيكل، فإنه لا يقل عنه تناقضات هيكل في المسألة الواحدة، فهو قرر بعد فترة غياب أن يعود لممارسة دور الحكواتي عبر الفضائيات التي تعد أفضل منبر لمزج السياسة بالحكايا المرسلة دون خطام ولا زمام، لكنه اختار قناة «الجزيرة» التي اتهمها سابقًا بالتطبيع مع إسرائيل، هذا التنكر لم يقف على اختيار القناة، بل انتقل إلى الممارسة الحياتية، فهو بعد زيارته لدولة الإمارات وثنائه عليها وعلى نهضتها خرج من الواقع ليروي قصة هزلية عن احتلال إيران التي يتحدث بلسانها هذه الأيام للجزر، معتبرًا أن ذلك لا يعد احتلالاً، بل صفقة باع العرب فيها الجزر الإماراتية في سبيل تثبيت عروبة البحرين، وهو ما يسيء للبحرين حكومة وشعبًا وقبل ذلك الطائفة الشيعية التي لا تقبل التشكيك في عروبتها فضلاً عن إساءة تحولهم إلى سلعة طائفية تتم مقايضتها.


طروحات هيكل مخجلة حتى لمن تبقى من العروبيين الناصريين، فالجزر الإماراتية قضية عربية قبل أن تكون إماراتية، وزعمه بأحقية إيران بالجزر التي لم تتجرأ إيران على احتلالها إلا بعد ظهور النفط وانسحاب بريطانيا منها، وذلك لا يلغي التاريخ ولا الحق السيادي للإمارات فيها، ودعوة هيكل للتحكيم مهزلة أخرى لا تقل عن تصريحه السابق بأن العرب باعوا الجزر لإيران.


أوهام هيكل بحاجة إلى عشرات الكتب لالتقاطها وليس كالتي ألفها ناقدوه من كشك إلى سيّار إلى المفكر الكبير عبد الله العروي الذي وصفه في خواطر الصباح بـ«أبرز سدنة الوعي العربي الزائف»، وأشاركه القول بأن قراءة كتب هيكل مثل قراءة روايات الخيال العلمي كنوع من الخيال السياسي الذي لا يصدر إلا عن ساحر منوّم، قصده الأول هو دغدغة العواطف، لكن عواطف مَن: هل عواطف رئيسه أم شعبه أم عواطف أعداء مصر والعرب؟
أزمة هيكل ليست ضد الآخر الذي بدا واعيًا الآن في فهم حجم المغالطات ضده، لكنه مضر جدًا بمصر الجديدة التي لا مكان لها لغير المستقبل، وعلى المثقفين المصريين مسؤولية عظيمة لتخليص تاريخ مصر من أوهام هيكل الذي لم يشوه تاريخ أي من البلدان العربية كما فعل مع مصر، فالسادات في نظره سمم عبد الناصر بحضور ياسر عرفات عبر دسه السم في فنجان القهوة (خريف الغضب)، وفعل ذات الأمر مع الرئيس حسني مبارك في كتابه «مبارك وزمانه».


عالميًا، تحليلات هيكل وتنبؤاته تؤخذ على شكل طرائف سياسية كقناعته بأن جماعة صربية قومية متعصبة وراء 11 سبتمبر (أيلول)، وأن أميركا زودت إسرائيل بطائرات استطلاعية في حرب 1973، وهناك العشرات من هذه التناقضات المحزنة والمضحكة في آن التي تؤكد أن هجومه الأخير على السعودية ليس مقطوع الصلة عن سياق هذه الأنا المتضخمة التي لم يعد بإمكانها نسج مزيد من الأوهام في هذه الأوقات الحرجة من تاريخ المنطقة.


حال هيكل تشبه تلك الأم في الفيلم الألماني العظيم «وداعًا لينين»، وهو فيلم تراجيدي كوميدي يحكي قصة تأثر عائلة من ألمانيا الشرقية بسقوط جدار برلين وتوحد ألمانيا الشرقية والغربية عام 1989، بعد أن شهدت كريستين كارنر، وهي أم لطفلين، مشاركة ولدها آليكس في مظاهرة ضد الحكومة الاشتراكية والقبض عليه من قبل عناصر الشرطة، تصيب الأم جلطة قلبية تقع على أثرها في غيبوبة تستمر لتسعة أشهر، وحين استيقظت أخيرًا من غيبوبتها كان كل شيء قد تغير وتوحدت ألمانيا الشرقية والغربية وسقط جدار برلين، وتظل الأسرة كلها تكافح في الكذب على الأم لكي لا تصطدم بالواقع... آن لنا اليوم أن نقول: «وداعًا هيكل».