& مصطفى الكاظمي

ليس خافياً أنّ الخلافات والتنازعات الداخليّة والإقليميّة التي أطاحت بالولاية الثالثة لرئيس الحكومة العراقيّ السابق نوري المالكي في11-08-2014، وجاءت بالحالي حيدر العبادي إلى منصب رئاسة الوزراء حيث شكل حكومته في 8 سبتمبر 2014، أدّت في النهاية إلى اتّفاق هشّ على تشكيل الحكومة، يمكن أن ينهار في أيّ لحظة.

&وعلى الرغم من أنّه بذل جهوداً مكثّفة لحفظ التوازن وعدم الانجرار نحو مخيّم ضدّ آخر، إلّا أنّ حجم الاستقطاب الذي يحيط بالعبادي ما زال يصعّب من مهامه.

فمن جهّة التنافس الإيرانيّ–الأميركيّ حول تصدّر قائمة الأكثر نفوذاً في العراق، قام العبادي باتّخاذ منهج وسط يجمع بين رؤى الطرفين لحفظ المصالح المشتركة للعراق معهما. فقد قام في وقت متقارب بزيارتين مهمّتين إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة في 13 نيسان/أبريل، وأخرى إلى إيران في 17 حزيران/يونيو، حيث كانت زيارته الثانية لإيران بعد تسلّمه المنصب.

وفي شأن التنافس الداخليّ، لم يتحيّز العبادي في الخلافات القائمة بين حكومة إقليم كردستان في أربيل، والحكومة الاتحادية التي هو يرأسها في بغداد، من جهّة، وبين الأحزاب والأطراف المشاركة في السلطة من جهّة أخرى، ممّا جنّب البلد الصراعات العلنيّة والشديدة التي كانت تحدث في ظلّ الحكومات السابقة.

ومن جهّة القتال مع "داعش"، احتفظ بنوع من التوازن بين قوّات الحشد الشعبي المؤلفة من المتطوعين وقوّات الجيش العراقي، وقوّات التحالف ضدّ "داعش"، حيث ظهرت نتائجه الإيجابيّة في تحرير تكريت في 31 مارس 2015 وذلك عبر المفاوضات التي أدّت إلى تقسيم الأدوار بين الأطراف وتجنّب الانسحاب الكامل من بعض القوى المسلّحة اعتراضاً على مشاركة قوى أخرى.

ولكن مع بدء مسيرة الاحتجاجات العراقيّة، وقع العبادي بين مطرقة المطالبات الشعبيّة المدعومة بقوّة من المرجعيّة الدينية في النجف جنوبي العراق، حيث أعلن المرجع الديني الأعلى علي السيستاني في رسالة في 21-02-2011 الى ممثليه في المحافظات، التأييد للمحتجين على الفساد ونقص الخدمات، والتي تدعوه إلى إصلاحات سريعة وجذريّة لا تراعي المحاصصة ولا التوازنات الحزبيّة، وسندان معارضة شركاء السلطة والداعم الإيرانيّ لهم.

وعلى الرغم من أنّ هذا الاختبار كان خطيراً، إلّا أنّ العبادي حاول الاستمرار على منهجه الوسطيّ، حيث أقال في حزمته الأولى للإصلاحات، النوّاب الثلاثة لرئاسة الجمهوريّة والثلاثة لرئاسة الوزراء، والذين كانوا ينتمون إلى جهّات سياسيّة مختلفة من المكوّنات الرئيسيّة الثلاثة في البلد. وبهذه الطريقة، تجنّب الصدام مع جهّة محدّدة ضدّ جهّة أخرى.

وفي البنود الأخرى للحزمتين الأولى والثانية للإصلاحات، لم يطرح العبادي أيّ مطلب من شأنه أن يعدّ انحيازاً إلى جهّة دون أخرى.

وعلى الرغم من أنّ هذا المنهج الوسطي للعبادي، يسعى الى تجنّب الصدام مع القوى والأحزاب السياسية واشعارها بان جميعها مشمول بالإصلاحات وعلى الجميع التضحية بالامتيازات، لتجنّب إيجاد شروخ وانقسامات حادّة في العمليّة السياسيّة الهشّة في الأساس، إلّا أنّ هذا المنهج لا يزال لا يبلغ مستوى التحدّيات القائمة حاليّاً، ولا يلبّي المطالب العاجلة للجمهور الغاضب.

إنّ العبادي يواجه اليوم تحدّياً كبيراً، فلم تقتنع الاحتجاجات الشعبيّة والمرجعيّة الدينية بحزمة الإصلاحات المقدّمة من قبله، والتي تتضمن إجراء تخفيضات كبيرة في أعداد الحمايات الشخصية للمسؤولين والرئاسات، وإعادة هيكلة أفواج الحماية الخاصة، وتشكيل لجنة مهنية عليا لالغاء الفوارق في الرواتب، وتشكيل لجنة لاخضاع الوزارات الى المساءلة والمحاسبة.

ولم يسمح له شركاؤه في السلطة من قيادات في حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون والتحالف الوطني، باتّخاذ خطوات أكبر في مسيرة الإصلاح، ممّا دفع المرجع الدينيّ الأعلى علي السيستاني في أجوبته على أسئلة وكالة "فرانس برس" في 21 آب/أغسطس إلى التحذير من خطر "تقسيم العراق"، ما لم ينفّذ "إصلاح حقيقيّ". وجاء هذا بعد صدور الحزمتين الأولى والثانية للإصلاحات من قبل رئيس الوزراء. وهذا يعني أنّ المرجعية ليست مقتنعة بمسار الإصلاحات وحجمها وتأثيرها.

ومن جهّة أخرى، أبدى كلّ من الأطراف المشاركة في الحكومة تحفّظات مختلفة على نوعيّة الإصلاحات التي يجري الحديث عنها. فقد طالب إقليم كردستان بمراعاة استحقاقات الإقليم المالية من الميزانية وحجم مشاركته في الحكومة وعدم المساس بالوزارات التي يشغلها الأكراد، فيما أبدت الأطراف الشيعيّة والسنيّة الأخرى المشاركة في الحكومة، ملاحظات مشابهة أيضاً، خوفاً من تضعيف موقعها في الحكومة.

كلّ ذلك من شأنه أن يكشف أنّ الإصلاحات المطروحة من قبل العبادي حتّى الآن لم تتجاوز مستوى التعديلات التي لا تخلق تغييراً حقيقيّاً على الساحة السياسيّة، سواء في نظر الأحزاب، أم في نظر الشارع والمرجعيّة.

ولكن، ما هي الخيارات المفتوحة أمام العبادي؟

أوّل خيار مطروح، وقد رفعه أيضاً بعض المتظاهرين في شعاراتهم، هو انسحاب العبادي من كتلته الحزبيّة والسعي وراء إيجاد كتلة مستقلّة موالية لمشروعه الإصلاحيّ، ممّا يمكّنه من السير في إيجاد تغييرات أكثر جذريّة من دون الوقوع في تعارضات المصالح الحزبيّة المتشعّبة. ولكن هذا الخيار يبدو غير واقعيّ في ظلّ توزيع السلطة الحالي والمصالح السياسيّة بين أحزاب صعدت عبر الانتخابات. فليس من السهل إطلاقاً إيجاد تغيير نوعيّ في التركيبة السياسيّة القائمة في الوضع الحالي،ّ إلّا في حال إجراء انتخابات مبكرة تأتي ببرلمان جديد وتوزيع جديد للسلطة. وهذا أيضاً غير ممكن في ظلّ وقوع معظم المحافظات السنّية تحت سيطرة "داعش".

وفي المقابل، هناك من يطرح، وخصوصاً في بعض الأوساط السياسيّة، خيار التسويف والاستمرار بالمماطلة في تنفيذ الاصلاحات ومحاولة تقديم إرضاء نسبيّ للجماهير الشعبيّة والمرجعيّة الدينية، بأمل خمود الهيجان القائم حاليّاً تدريجيّاً، ليتمكّن العبادي من الاستمرار في قيادة وضع البلد الهشّ على أساس التوازنات. وهذا الاحتمال على الرغم من أنّه مطروح بقوّة، إلّا أنّه لا يقرأ في شكل جوهريّ الأسباب التي دفعت السيستاني إلى التحذير من انهيار الأوضاع والتقسيم، خصوصاً أنّ هناك معادلة غيّرتها التظاهرات الأخيرة في طريقة التعاطي مع الشأن السياسيّ، ولا يمكن العودة إليها مجدّداً.

المطلوب من العبادي، إجراء تغيير جذري يشمل إقالة مسؤولين وإلغاء مناصب، وهو إلى الآن لم يطرح أيّة خطّة استراتيجيّة عمليّة وواضحة المعالم لتوفير الخدمات وتفعيل الدولة وقلع جذور الفساد منها. وهذه هي مطالب تظاهرات الاحتجاج.

يبدو أنّ ما يواجهه العبادي، فرصة وتهديد في آن واحد، فالدعم الذي وفّرته التظاهرات والمرجعيّة مرهون بتغيير حقيقيّ، والفشل في إحداث هذا التغيير سيقود إلى نقمة الشعب بصورة متزايدة وغضب المرجعية الدينية، لن يكون العبادي خاسرها الوحيد.

&

المونيتور