&توفيق المديني


تطالب الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الدولة التونسية بكل مؤسساتها إسقاط مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، لأنه يتنافى مع مسار العدالة الانتقالية، باعتبارها عملية متعددة الأوجه تتجاوز النهج القانوني الرسمي لمفهوم العدالة المعروف، والتي نص عليها الدستور ولهيئة الحقيقة والكرامة التي تشكلت للإشراف على مسار هذه العدالة الانتقالية ببعديها السياسي والاقتصادي مثلما نص على ذلك القانون الذي أحدثها وتحديدا الفصل 53.


فهذا المشروع يُعَّدُ ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداء عليها وعلى صلاحياتها، ولاسيَّما على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الانتقالية، الانتهاكات التي حصلت في مرحلة الديكتاتورية، وتطبيق استراتيجيات مكافحة الإفلات من العقاب أو « العدالة الانتقالية» لاسيَّما فيما يتعلق بكشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية وجرائم الفساد ونهب المال العام قبل الثورة، وجبر الأضرار والإنصاف للضحايا، ومطالبة الدولة التونسية بتنفيذ سياسة التنحية، والعقوبات والإجراءات الإدارية الخاصة بالموظفين الكبار والصغار ورجال الأعمال المتورطين في جرائم الفساد. كما يجب على الدولة التونسية أن تشارك في عملية الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون واستعادة ثقة الجمهور وتعزيز الحقوق الأساسية ودعم الحكم الرشيد.
ليست القضايا المحورية التي تربّينا عليها ومنها القضية الفلسطينية المركزية، أكثر أهميّة من قضية محاربة الفساد، والكرامة وذود الإنسان عن نفسه من هجمة الفقر والإهمال والفساد. فالفقر في تونس بات يشكل أكثر حالة اغتراب للشعب التونسي وهو في وطنه.. وإذا عدنا إلى قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي طرحه رئيس الجمهورية بهدف المصادقة عليه من قبل البرلمان، فإن هذا القانون يقع تحت سطوة نزعة سلطوية فردية ـ وطبقة رأسمالية «أوليغارشية» فاسدة، توظف أجهزة الدولة لتمكين جذورها عميقاً في الدولة والمجتمع. فيتماهى في سياق ذلك الرئيس مع الدولة/ السلطة، فيصبح أي انتقاد لآليات اشتغال الدولة نقداً شخصياً للرئيس وبطانته وللطبقة الرأسمالية الفاسدة التي يدافع عنها. وتضيع الفواصل بين شخص الرئيس والدولة الوطنية الديمقراطية التعددية التي يناضل الشعب التونسي من أجل بنائها.. فاختصار الدولة إلى حدود سلطة الحاكم الفرد، يقــود إلى قطيعة ابستمولوجية/ معرفية وسياسية واقتصادية مع طبيعة الدولة المؤسساتية، ويحوّلها إلى سلطة ذات جوهر شخصاني- فئوي. وبالنسبة لرجال الأعمال المعنيين بهذا المشروع ـ الذي قدمه رئيسه الدولة وزكته الحكومة ـ والذي يقر نصه بتجاوزاتهم ومخالفاتهم فإن إعلان التصالح معهم قبل محاسبتهم سيعني بالنتيجة مكافأة مجموعة من الفاسدين الذين مولّوا الحملات الانتخابية السابقة للأحزاب والأطراف السياسية الفاعلة حاليا في مؤسسات الدولة لهذا السبب، تشكلت في تونس مؤخرا جبهات رفض لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية. الجبهة الأولى، وتتشكل من خمسة أحزاب معارضة خارجة عن الحكومة، وتنتمي إلى يسار الوسط. وهذه الأحزاب الخمسة تنتمي إلى العائلة الديمقراطية الاجتماعية، وهي الحزب الجمهوري (مية الجريبي) والتكتل من أجل العمل والحريات (مصطفى بن جعفر) والتحالف الديمقراطي (محمد الحامدي) والتيار الديمقراطي (محمد عبو) وحركة الشعب (زهير المغزاوي). وقد اتفقت هذه الأحزاب الخمسة قبل أسبوع على تأسيس تنسيقية وطنية فيما بينها لإسقاط مشروع هذا القانون، فضلا عن تنظيم مسيرة وطنية بالعاصمة والدعوة إلى تحركات بالجهات يوم 12 سبتمبر 2015. وللإشارة فإن العائلة الديمقراطية تضم بعض الأحزاب الأخرى لعل أهمها حزب «المؤتمر»الذي لا يلقى ترحيبا بين الأحزاب سابقة الذكر. كما أن رفض المصالحة الوطنية يشمل العديد من الأطراف الأخرى أهمها الجبهة الشعبية التي لم تكن معنية بتنسيقية العائلة الديمقراطية الاجتماعية ما يعني أن الأحزاب الخمسة سالفة الذكر قد نظرت في مشروع قانون المصالحة ورأت فيه نارا قادرة على إذابة الثلج في مشاوراتها فحاولت البحث عن قبس يعيد الروح لمبادرتها. فالعائلة الديمقراطية لا تتفق حول نوعية الالتقاء ذلك أن حزب التكتل يدافع عن انصهار أحزابها في حزب واحد فيما تدافع الأغلبية عن ائتلاف لا يقضي على خصوصية كل حزب، لكن الناحية الشكلية لا تحجب العديد من الأسباب الموضوعية.
إذا كان حزبا النهضة والنداء في النهاية خيّرا الحكم معا وتوسيع الائتلاف الحاكم ليشمل حزبي الاتحاد الوطني الحرّ وحزب آفاق تونس وبذلك يضمن الائتلاف الحكومي أغلبية ساحقة في البرلمان، فإن أحزاب المعارضة لم تتجاوز خلافاتها وبقيت رهينة «ضغائن »الماضي وأحقاده. فالجبهة الشعبية لم تتجاوز بعد علاقتها المتوترة والمتشنّجة بحزبي الترويكا سابقا التكتّل خاصة المؤتمر من أجل الجمهورية، ورغم علاقة النضال الطويلة التي كانت تجمع الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية وزعيم حزب العمال حمة الهمامي وزعيم حزب المؤتمر ورئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي، فإنه ومنذ انتهاء الانتخابات بدت العلاقة فاترة بين الرجلين، كما هاجمت القيادات في كلا الحزبين بعضها ببعض في أكثر من مناسبة وحول أكثر من ملف. ورغم مواقفهما الموحدة من القضايا الوطنية الكبرى والراهنة ورفضهما لسياسات الحكومة الحالية التي يعتبرانها فاشلة وستجرّ الوبال على البلاد، فإن ذلك لم يقرّب وجهات النظر بينهما إلى درجة البحث عن أرضية عمل مشتركة. فالجبهة الشعبية ترى أن حزب المؤتمر لم يقم بدوره في حماية الدولة من تغلغل المتشددين في مفاصلها وقبل عن طيب خاطر أن يكون أحد أذيال النهضة في ائتلاف تتحكّم النهضة في قراراته دون منافسة من شريكيها، كما تتوجّه الجبهة الشعبية بالنقد اللاذع لرئيس الجمهورية السابق المرزوقي وترى أنه لم يعمل على توحيد التونسيين بل كان مطية وسببا في الفرقة والتشرذم. وفي المقابل يرى حزب المؤتمر انه الأولى بتزعّم المعارضة وهو الذي أعلن زعيمه المرزوقي عن تشكيل حراك شعب المواطنين – المعارض للسلطة.
ولعل هذا الصراع الخفي في الغالب والمعلن في بعض الأحيان سيؤثّر على وزن جبهة المعارضة لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية، والمتشكلة من العديد من الأحزاب الديمقراطية واليسارية والقومية، التي ستنزل جميعها إلى المسيرة الوطنية يوم السبت 12 سبتمبر الجاري، بهدف استخدام الشارع كوسيلة للضغط على الحكومة من أجل سحب المشروع من أروقة مجلس النواب. علماً أن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يمثل أكبر قوة اجتماعية في البلاد لم يؤيد جبهة المعارضة هذه، باعتباره أعلن موقفه الذي يتسم بالبراغماتية والوسطية، إذ يطالب بإجراء تعديلات جذرية على هذا المشروع.
وهكذا، ستكون المسيرة الوطنية اختبارًا حقيقيًا للحشد الجماهيري الذي يمكن أن يقوم به هذا التجمع الكبير من الأحزاب الرافضة لمشروع قانون المصالحة، ونقطة تصادم حقيقية مع أجهزة الأمن، لأن هذه المسيرة الوطنية تعتبرها الحكومة تحديًا صارخاً لحالة الطوارئ، الذي تعيش فيه تونس منذ آخر عملية إرهابية بسوسة في نهاية شهر يوليو الماضي، والبلاد أصبحت مهددة بحدوث عمليات إرهابية أخرى داخل العاصمة حسب تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية. وإذا كان النزول إلى الشارع أصبح تقليدا ًنضاليًا سلميًا لدى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في تونس طيلة السنوات الخمس الماضية، فإن جبهة المعارضة الديمقراطية هذه أصبحت تخشى من عودة ممارسات الدولة البوليسية، لاسيَّما في مجال القمع للمظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية من قبل أجهزة الأمن، والاعتداءات على الحريات الديمقراطية التي أضحت من مكاسب الثورة، لاسيَّما حرية التعبير، وحرية التظاهر. لاسيَّما أنّ الائتلاف الحاكم أعلن حالة الطوارئ تحت غطاء «مقاومة الإرهاب»، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهو أداة لضرب التحركات الاجتماعية من أجل مواصلة الالتفاف على الثورة وتمرير قوانين تخدم وتدافع عن الأثرياء والفاسدين، منها قانون المصالحة.
تخوض المعارضة التونسية اليوم المعركة ضد الفساد الذي يلتهم 27 مليار دينار من الناتج المحلي الخام(حوالي 14 مليار دولار أمريكي)، إذ سجلت تونس خلال السنوات القليلة الماضية تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا. وحذفت حكومة الصيد الحالية من قاموسها السياسي مقاومة الفساد، وهو ما يؤشر إلى العودة إلى المربع الأول واعتبار الفساد من المواضيع المحرمة. ولأن الأحزاب الكبرى التي تتشكل منها هذه الحكومة تتجنب الخوض بعمق في ملف الفساد لتجنب الإحراج في علاقة بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لاسيَّما المورطين منهم في قضايا فساد. ومثل التعاطي مع ملف رجال الأعمال المورطين في الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة وربما تطرح المسألة بأكثر وضوح مع الفائزين اليوم في الانتخابات في ظل وجود عدد لا بأس به من رجال الأعمال صلب البرلمان وأيضا في التركيبة الحكومية الجديدة. ويشكل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الأخير مدخلاً خطيراً للتصالح مع الفاسدين ومع من نهبوا أموال التونسيين، نحن مع المصالحة، لكن بعد المحاسبة وفي إطار الشفافية والدستور ومسار العدالة الانتقالية. ولأنه في حال المصادقة عليه قريباً من البرلمان، سيحصن قانونيا من كل الذين شاركوا في الفساد وانتهاك قواعد الحوكمة الرشيدة، واستولوا على أراض وأموال عمومية وإن كانوا مأمورين. ونحن نشدد على ضرورة البدء بمحاسبة هؤلاء وكشف عمن أعطاهم الأوامر، ونحن نعترض على « قطع الطريق » وإعلان مصالحة سابقة لأوانها مع متهمين بالفساد ومخالفة القوانين وإن نفذوا تعليمات تحت الضغط دون التورط مباشرة في السرقة والرشوة.
إنّ إخراج البلاد من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة لا يمرّ عبر التغاضي عن الفساد وإعادة الاعتبار للفاسدين ولناهبي المال العام بقدر ما يقتضي وضع منوال تنمية جديد موجّهة لخلق الثروة وتوفير مواطن شغل، إلى جانب اتّخاذ إجراءات جريئة أخرى أساسا، إعادة هيكلة المنظومة الجبائيّة، إعادة النّظر في المديونيّة وتعليقها، واستعادة الأموال المنهوبة، وفرض ضريبة على الثروات الكبرى، هذا ناهيك عن إصلاحات في قطاع الفلاحة، والتقدم في إحداث خلايا للحوكمة ومقاومة الفساد في صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة. وجميع الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات اليوم على غرار الديوانة والصحة والطاقة والمناجم..إلخ تمر في جزء كبير منها عبر مقاومة الفساد والمفسدين. كيف ستوفق الحكومة في مقاومة الإرهاب والتهريب إذا ما كانت وصفة النجاح تمر حتما عبر مكافحة الفساد؟ والجميع يعلم أن شبكات التهريب لا تعمل بمفردها بل لها امتداد وعروق ومصالح من داخل أجهزة الدولة تتواطأ مع مافيا «الحاويات» والتجارة الموازية. والإصلاح يبدأ من مقاومة لوبيات الفساد والتهرب الضريبي لحماية النسيج الاقتصادي من جهة وحماية الفقراء من جهة أخرى.
كيف ستكسب حكومة الصيد الثقة والتأييد الشعبي إذا ما أسقطت من حساباتها تحت وقع الضغوطات الاقتصادية، موضوع مكافحة الفساد في الوقت الذي مازالت تطرح فيه هواجس ومخاوف التونسيين من ممارسات الماضي ومن بينها ما يتداول هذه الأيام حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية مع رجال الأعمال الفاسدين، الذين هربوا أموال تونس إلى الخارج، إذ تم الكشف مع بداية سنة 2015عن حوالي 349 حسابا سريا في بنوك سويسرية بمئات المليارات من الدنانير التونسية تعود لحاملي الجنسية التونسية من بينهم رجال أعمال وأحد المرشحين للرئاسة؟!! وهنا قد يتساءل التونسيون من سيضمن عدم تواصل نهب ثروات ومقدرات الشعب في ظل حكومة لم تقدم ولو رمزيا ما يفيد تعهدها والتزامها بمحاربة الفساد والمفسدين؟ فمشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية يحمل بشرى سارة للهيئات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وبالتالي يحمل أيضا مؤشرات إيجابية تقدم للمستثمرين الأجانب.
بالتأكيد سيكون هناك شك قد يتحول إلى شكوك، وكلما قويت موازين الشك خفّت موازين الثقة في مناخ الاستثمار وجدية مكافحة الفساد وبالتالي في القدرة على إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وهناك خشية من أن يجد الفساد في مشروع القانون نفسا يتجدد من خلاله. فالتسويات تبقى دوما قابلة للنقاش ولا يمكن أن يحصل بشأنها إجماع وحتى التوافق، بشأن الملف الشائك، سيكون مرحليا وخاضعا لتوازنات سياسية. الأهم الآن أن لا يتحول قانون المصالحة الاقتصادية والمالية إلى فتنة كبرى، وإنما أن يحدث داخل مختلف الأوساط السياسية والشعبية جدلاً سياسياً منتجًا حول السبل الكفيلة لمحاربة آفة الفساد.