خالص جلبي

يقول المثل العربي «درهم وقاية خير من قنطار علاج»،وفي القانون الفيزيائي أن الكون وحدة مغلقة، فإذا طارت فراشة في سان فرانسيسكو أحدثت أثرها في اليابان، وترجمة ذلك أن الشعب السوري حين سكت على انقلاب مارس 1963 دفع الثمن في مذبحة حماة، ومجازر تدمر، بمقتل عشرات الآلاف من خيرة شبابه، لكن سكوت العالم على ما يجري في سوريا قاد إلى تدفق الملايين نحو أوروبا زحفاً على الأقدام، في مشهد يذكِّرنا بالآية الكريمة: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ».الموت باندثار الأمم والحياة بخروج أمة جديدة.

سألت طبيب الأسنان السوري الذي التقيته في جبال عسير: ألستم نادمين على سوريا المهدمة؟ ألا ترون أنه من الأفضل أن لم تكن في سوريا ثورة وثوار؟ فقال: نعم نحن نادمون..نادمون أننا سكتنا على هؤلاء الطغاة أربعين عاماً..والآن جاء يوم الحساب والزلزلة.

&

وأزعم أن سوريا سوف تغير العالم، وسوف يكتب التاريخ قبل وبعد الثورة السورية، مثل أحداث 11 سبتمبر، وكارثة هيروشيما، وزلزال لشبونة عام 1755، وحرب الاستقلال الأميركية، وحرب الثلاثين عاماً.

أوروبا لن تبقى كما كانت قبل الهجرة السورية، وهذا يذكرني بكتاب «ألمانيا تلغي نفسها»، وكان أكثر الكتب رواجاً بعد الحرب العالمية الثانية، وفكرته الرئيسية أن ذلك الإلغاء يحدث بسبب الهجرة.

شخصياً حين دخلت ألمانيا عام 1975 هارباً من نظام «البعث»، فوجئت بكتابات عنصرية في كل زاوية، أن غادروا البلد أيها الأجانب، فغادرت إلى كندا، لكن بعد ذلك اتحدت أوروبا في 28 دولة بها 450 مليوناً من الأنام، بعملة قوية اسمها اليورو، ورأيت أثر ذلك على إسبانيا التي نفضت عنها عصر فرانكو، فكانت خلقاً جديداً ونشأة مستحدثة، وكذلك الحال مع البرتغال بعد سالازار.

وحالياً يتدفق اللاجئون إلى ألمانيا ليبدلوها، وليتبدلوا هم وذراريهم من بعدهم أيضاً، سوف يعجنون عجناً في رحم أقوى دول العالم بثقافات قوية للغاية، ولينعشوا أوروبا اقتصادياً، كما حصل مع هجرة الهجونوت بعد الاضطهاد الكاثوليكي في فرنسا.

حسب فهمي للثقافات القوية وموت الأمم، فإن الأفراد يذوبون في الثقافات القوية، وهذا ما أتوقعه للسوريين الزاحفين إلى الشمال الأوروبي.

وفي قناعتي أن ما يحدث في جانب منه خير عميم، إذ سيفهم السوريون طبيعة العصر الذي يعيشون فيه، خارج منظومة المخابرات، والحزب القائد، والرفيق الأبدي، والزعيم الملهم، والرفيق المنزه عن الخطأ والنقد..

إلى آخر الخرافات الحزبية.

وحسب صادق جلال العظم، فإن الحداثة نمت من رحم الصراع المذهبي، فترك الغرب الدين والديانة، والمذهب والحزب، وانعتق بالعقلانية والتسامح والحداثة.

ستولد الأمة السورية ولادة مباركة من نار المحنة التي تصب الأمم، كما تفعل النار مع الحديد حين تنقيه من الخبث.

جاء في القرآن أن الله تعالى «أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ».

يؤكد القرآن على العبرة من الأمم السابقة، فسقوط الاتحاد السوفييتي يذكرنا بهلاك عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد..

أليس كذلك؟
&