رقية الكمالي
الاستجابة الإنسانية الألمانية لن تدوم، حيث يجري حاليا تطوير خطط البحرية الألمانية لزيادة مشاركتها في نظام حماية حدود الاتحاد الأوروبي عبر إرسال الزوارق الحربية إلى البحر الأبيض المتوسط
&
تراوحت ردود أفعال الألمان بين مؤيد لاستقبال اللاجئين وتوفير الأمان والحياة الكريمة لهم، ومعارضين لوجودهم، ففي الوقت الذي احتشدت فيه مشاريع للمساعدة واستقبال ودود للسوريين الناجين من وحشية رئيس تفوق على هتلر في عدد ضحاياه، كانت هناك أيضا مظاهرات معادية للأجانب في ألمانيا وهجمات الحرق العمد لملاجئ طالبي اللجوء وحوادث عنصرية بشعة، مثل: هجوم النازيين الجدد على أطفال المهاجرين في مترو برلين الشهر الماضي.
وفقا للتقديرات، تدفق اللاجئين يأتي في المقام الأول من سورية (حوالي 120 ألفا في ألمانيا وأكثر من 300 ألف في الاتحاد الأوروبي بأكمله) ثم شمال أفريقيا ومنطقة البلقان. استقبلت ألمانيا أكبر عدد من اللاجئين في عام 2014، أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، ما يقرب من 200 ألف، بالإضافة إلى معالجتها أكبر كمية من طلبات اللجوء الفردية في العالم.
إن الهستيريا السائدة في ألمانيا من "طوفان" طالبي اللجوء الذي يهدد النظم الاجتماعية الألمانية والأوروبية هي فقط مجرد: هستيريا كما تقول الكاتبة والمترجمة الألمانية لورين بالهورن. القصة الرئيسية من وجهة نظر وسائل الإعلام في أوروبا الغربية ليست في حالة اللاجئين أنفسهم، ولا في الأسباب الكامنة وراء أزمة اللاجئين، إنما في استجابة الجمهور الأوروبي وردة فعله تجاه هذه الأزمة، حيث سيطرت عناوين تنامي المشاعر المعادية للاجئين على الأخبار التي لم تنحصر في المقاطعات الشرقية من ألمانيا، بل هيمنت على الإعلام الأوروبي. أصبحت المظاهرات اليمينية الشعبوية ضد طالبي اللجوء حدثا عاديا في البلاد، خاصة في ولاية سكسونيا الشرقية، والاعتداءات الجسدية ضد اللاجئين أو الأشخاص الذين يعتقد بأنهم لاجئون آخذة في الارتفاع، حيث سجلت الولاية الألمانية أكثر من 30 اعتداء على الملاجئ منذ شهر يناير لهذا العام، وهذه أحدث موجة عنف بنيت على سنوات عدة من ارتفاع مشاعر كراهية الأجانب التي تأججت من قبل وسائل الإعلام الرئيسية والسياسيين. بالإضافة إلى المشاهد الدرامية في اليونان ومقدونيا وهنغاريا، غير أن اهتمام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقضية اللاجئين وعدم تسامحها مع النازيين الجدد الذين يهتفون ضدها بـ"خائنة"، ساعد على نشر ثقافة الترحاب بين مواطنيها، وجعلها تظهر في وسائل الإعلام كرائدة أوروبا الإنسانية.
يشارك جميع أحزاب الائتلاف الكبير في خطاب: لاجئون "يستحقون" و"لا يستحقون"، بمعنى أن الهاربين من الحرب والقمع في الشرق الأوسط هم موضع ترحيب في ألمانيا، في حين أن أولئك الذين يفرون من الفقر في جنوب شرق أوروبا يجب أن يرحلوا بأسرع وقت ممكن. قد يغذي هذا الجدل الشكوك العامة من طالبي اللجوء ويدعم المواقف العنصرية القائمة، مما يسهل عمل اليمين المتطرف العنصري للحصول على موطئ قدم أكبر في المجتمع. منذ سنوات، يستخدم الساسة الألمان المهاجرين وطالبي اللجوء ككبش فداء لصرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية لتراجع مستويات المعيشة، وحزم التقشف التي بدأ العمل بها في منتصف عام 2000 من قبل الائتلاف الحاكم للحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب الخضر.
في مقابلة له مع مجلة دير شبيغل الألمانية، يتساءل اللاجئ علي وهو يشير إلى كوخه البسيط المصنوع من البلاستيك: هل هذه حقا أوروبا؟ يضيف علي الذي يريد الوصول إلى شمال فرنسا، من منطقة دارفور السودانية: عبرت الصحراء إلى ليبيا ودفعت لتجار المهاجرين آلاف اليوروات للسفر عبر البحر الأبيض المتوسط. كل مساء، يخرج علي وأصدقاؤه للبحث عن ثقب في السياج الأمني الذي يحمي ميناء كاليه الفرنسي، لكن دوريات الشرطة الفرنسية مع كلابهم يحاولون منع اللاجئين من الاستمرار في رحلتهم الخطرة. فقد أصبحت هذه العمليات جزءا من الروتين اليومي في قلب أوروبا، الروتين الذي ينتج عنه بانتظام وقوع إصابات وأحيانا وفيات.
كمبدأ سياسي، لكل إنسان الحق في العيش والعمل والسفر أينما يريد، ويتعزز هذا الركن في سياسة أوروبا اليسارية "لا حدود، لا دول، ووقف عمليات الترحيل" بفضل منظمة حلف شمال الأطلسي واليسار الألماني الذي يعتقد بأن لديه مسؤولية سياسية وأخلاقية للقتال من أجل هذا الحق. لا شك أن هذا التدفق الهائل للاجئين سيغير من تركيبة المجتمع الألماني والمشهد الثقافي والعرقي في مدنه الكبرى. ومن ثم يجب أن تبذل جهود واسعة لدمج هؤلاء وبناء مجتمع متنوع ومتماسك. غير أن تجارب دول مثل فرنسا وبريطانيا تظهر مدى صعوبة هذه العملية، حيث يتطلب دمج أعداد كبيرة من المهاجرين يحملون قيما ثقافية ودينية مختلفة وقدرات تتطلب جهدا طويل الأجل وتخصيص موارد. بينما توضح تجربة السويد أن النوايا الحسنة قد تؤدي إلى خلق غير مقصود لأحياء معزولة وغياب التماسك الاجتماعي أو القيم المشتركة بين المواطن والمهاجر.
إن الساعة تدق والاستجابة الإنسانية للحكومة الألمانية لن تدوم، حيث يجري حاليا تطوير خطط البحرية الألمانية لزيادة مشاركتها في نظام حماية حدود الاتحاد الأوروبي عبر إرسال الزوارق الحربية إلى البحر الأبيض المتوسط. سنرى في الأيام القادمة فيما إذا استمرت ميركل في الحديث عن التعاطف والتضامن مع اللاجئين أم سوف تخضع لمطالب النخب الأوروبية لمنع هذا الطوفان البشري.
إن الهجرة عبر زوارق البحر الأبيض للعيش في ألمانيا ليست وردية ولا مأساوية في آن معا، لكنها بالطبع مؤلمة، فالانتقال من مدينة إلى أخرى في البلد الواحد قد تنجم عنه متاعب في حياة أي إنسان، لا سيما في البدايات، فضلا عن الانتقال من قارة إلى أخرى ومن وطن إلى آخر يختلف عنا تماما. إن التعايش بين مئات الآلاف من المسلمين العرب والأفارقة بالإضافة إلى الملايين من الأتراك، سيختبر حدود التسامح الألماني: سيناقش البلد مرة أخرى مسألة السماح بارتداء الحجاب في أماكن العمل الحكومية، وفيما إذا كان يجب على الفتيات أخذ دروس السباحة في التعليم المختلط، وهل يستطيع المسلمون بناء المآذن بارتفاع أبراج الكنائس والدعوة إلى الصلاة بصوت عال. إن مأساة اللاجئين لا تمثل اختبارا للألمان فقط، بل هي أيضا فشل للسياسات العربية ووصمة عار على جبين الإنسانية.
&
التعليقات