عبد الجليل زيد المرهون

منذ ولادة دولة جنوب السودان، توقع المراقبون عدم استقرارها، بسبب النزاعات القبلية التقليدية، المتصفة بكثير من التعقيد... وإن الحرب الأهلية الأخيرة في جنوب السودان قد مثلت منحدراً كان على الساسة تجنبه، وإعطاء البلاد فرصتها في مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير ركائز الدولة والارتقاء بها

في السادس والعشرين من آب أغسطس 2015، وقّع رئيس دولة جنوب السودان، سلفاكير ميارديت، على اتفاق سلام سبق لزعيم المتمردين رياك مشار -النائب السابق للرئيس-أن وقعه في السابع عشر من الشهر ذاته، بهدف إنهاء النزاع الداخلي المسلح، المستمر منذ نحو عامين.

وشارك في التوقيع كل من الرئيس الكيني ورئيس الوزراء الإثيوبي والنائب الأول للرئيس السوداني (الشمالي).

وقد طالب مجلس الأمن الدولي كافة الأطراف ذات العلاقة باحترام وقف فوري ودائم لإطلاق النار، معرباً عن تصميمه على اتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان تطبيق كامل وتام للاتفاق، بما في ذلك فرض عقوبات من قبيل "حظر على الأسلحة" أو "عقوبات محددة"، أي تجميد أرصدة ومنع من السفر.

ونص الاتفاق على إعلان وقف دائم لإطلاق النار، ومنح المتمردين منصب نائب الرئيس، بعد إقصائهم منه في تموز يوليو 2013، بالإضافة إلى تشكيل لجنة للمصالحة، ومحكمة لجرائم الحرب، بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي.

وكانت شرارة الحرب الأهلية الأخيرة قد انطلقت في الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر 2013، إثر اشتباك مسلّح اندلع في مقر حرس الرئاسة، اعتبره الرئيس سلفاكير انقلاباً فاشلاً، جرى تدبيره من قبل نائبه السابق ريك مشار.

وقد تسببت الحرب في مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، كما شُرد أكثر من مليونين من سكان البلاد، لجأ 520 ألفاً منهم إلى إثيوبيا والسودان وكينيا وأوغندا. وحدث كل ذلك بعد أن تطوّرت الحرب إلى نزاع قبلي واثني، وانخرطت فيها عدة مجموعات مسلحة.

وأشارت الأمم المتحدة، في السياق ذاته، إلى رصد عمليات قتل واسعة خارج نطاق القضاء، واستهداف للأفراد على أساس عرقي، واعتقالات تعسفية.

وكان العالم قد شهد في التاسع من تموز يوليو 2011، ولادة دولة جديدة، في شرق أفريقيا، تحت مسمى دولة جنوب السودان، لتصبح بذلك الدولة الرقم 196 في العالم، وال 193 في الأمم المتحدة، وال 54 في الاتحاد الأفريقي.

وقاد ولادة الدولة الجديدة إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وإعادة رسم موازين القوى الإقليمية فيها.

وسريعاً أضحت جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، محطة للكثير من الزائرين، بينهم ساسة ودبلوماسيون، وكثير من الإعلاميين.

وتبلغ مساحة دولة جنوب السودان 644 ألف كيلومتر مربع. وهي تقع في المرتبة 42 عالمياً على هذا الصعيد، بعد أفغانستان (652 ألف كيلومتر مربع)، وقبل فرنسا (643 ألف كيلو متر مربع).

ولجنوب السودان حدود تمتد نحو 2000 كيلو متر تقريباً، وتجاور ست دول هي: إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى، إضافة للسودان ذاته.

ومنذ ولادة دولة جنوب السودان، توقع المراقبون عدم استقرارها، بسبب النزاعات القبلية التقليدية، المتصفة بكثير من التعقيد.

ويضم جنوب السودان ثلاث مجموعات سلالية رئيسية هي: النيليون والنيليون الحاميون والمجموعة السودانية. ويأتي النيليون على رأس هذه السلالات من حيث العدد والنفوذ والقوة، وتنتمي إلى النيليين ثلاث قبائل هي: الدينكا والنوير والشلك.

ويقدر عدد الدينكا بنحو ثلاثة ملايين نسمة، وهي كبرى المجموعات الإثنية في السودان، الذي يضم حوالي 500 مجموعة إثنية. وتعيش الدينكا في فضاء جغرافي يمتد من شمال مديريات جنوب السودان (بحر الغزال والنيل الأعلى) إلى جنوب كردفان (حول مجرى النيل)، حيث يقع خط تماسهم مع قبائل البقارة.

ولدى قبائل جنوب السودان امتدادات في كل من أوغندا وإثيوبيا وكينيا والكونغو، وهو الأمر الذي سهل انسياب وتحرك الجيش الشعبي لتحرير السودان في حدود الدول المجاورة في سنوات الحرب مع السلطة المركزية في الخرطوم.

وقبل ولادة الدولة الجديدة، كانت الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه قد دامت عقوداً من الزمن (1955-1972 و1983-2003)، وأسفرت عن قتل ما يزيد على مليوني شخص، وتشريد أربعة ملايين آخرين، أصبحوا لاجئين داخل وطنهم. كما لجأ نحو 420 ألف نسمة للدول المجاورة.

وبعد أشهر على قيام دولة جنوب السودان، عادت الحرب واندلعت بين الجنوب والشمال، على خلفية مطالب إقليمية، ونزاعات بشأن الثروة النفطية.

وفي الثاني من أيار مايو 2012، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره الرقم (2046) بشأن الحالة في السودان، حيث دعا البلدين إلى الانسحاب غير المشروط لجميع قواتهما المسلحة إلى جانبيهما من الحدود. والتوقف عن إيواء أو دعم مجموعات متمردة ضد الدولة الأخرى. واستئناف المفاوضات "بلا شروط"، تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.

وفي الأصل، هناك طيف واسع من الاتفاقيات الموقعة بين شمال السودان وجنوبه، سواء قبل الانفصال أو بعده. فإضافة لاتفاقية السلام الشامل لعام 2005، التي أسست لولادة الدولة الجيدة، جرى تباعاً إبرام عدد من الاتفاقيات التفسيرية أو المكملة: منها الاتفاق المبرم في ٢٩ حزيران يونيو 2011، بشأن أمن الحدود والآلية السياسية والأمنية المشتركة، الذي نص في مادته الثانية على إنشاء منطقة آمنة منزوعة السلاح، وسحب الطرفين لقواتهما من منطقة أبيي.

وعلى صعيد المقومات الطبيعية للدولة الجديدة، يُمكن ملاحظة أن دولة جنوب السودان تحتوي على العديد من الثروات، بما في ذلك النفط، الذهب، الفضة، النحاس، الزنك، الحديد، الأخشاب والأحجار الكريمة.

كما تحظى دولة جنوب السودان بواحدة من أغنى المناطق الزراعية في أفريقيا، في وادي النيل الأبيض، المشهور بتربته الخصبة، ومصادر مياهه الوافرة. ويدعم هذا الواقع نحو 15 مليون رأس من الماشية.

ووفقاً لتقرير، أعدته مجموعة نرويجية، فإن شركات أجنبية استحوذت على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في جنوب السودان خلال السنوات القليلة الماضية.

وقال التقرير إن حكومات وشركات أجنبية سعت للاستحواذ، أو استحوذت بالفعل، على مساحة تقدر بنحو 26400 كيلومتر مربع في الجنوب السوداني بين عامي 2007 و2010، بهدف إقامة مشروعات زراعية، وإنتاج الوقود الحيوي وزراعة الغابات.

وقد تلقى جنوب السودان أكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات الأجنبية منذ العام 2005، جاء غالبيتها من بريطانيا والنرويج وهولندا والولايات المتحدة.

وأجرت دولة جنوب السودان محادثات مع مستثمرين من دول الخليج العربية، والصين وأوغندا وهولندا، لدعوتهم إلى الاستثمار في الإنتاج الزراعي.

ويسعى جنوب السودان لرفع إنتاج المواد الغذائية الأساسية، مثل السكر والأرز والبقول والبذور الزيتية والماشية والقطن، من خلال الاستثمارات الأجنبية المتوقعة، أو المطلوبة إجمالاً.

ومن جهة أخرى، كان جنوب السودان يستحوذ على حوالي ثلاثة أرباع إنتاج النفط السوداني السابق، البالغ نحو نصف مليون برميل يومياً.

لقد كانت دولة جنوب السودان تنتج في وقت من الأوقات حوالي 350 ألف برميل يومياً، في حين ينتج شمال السودان 115 ألف برميل، من حقوله النفطية، التي تبقت له بعد انفصال الجنوب. وقد سعت دولة جنوب السودان لتشييد خط لتصدير نفطها عبر المحيط الهندي. وتحديداً عبر ميناء لامو، في شرق كينيا. وجرى توقيع اتفاق مبدئي بين جوبا ونيروبي لهذا الغرض.

وتشمل التحديات بعيدة المدى، التي تواجه دولة جنوب السودان، مسألة التخفيف من حدة الفقر، والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وتطوير تحصيل الضرائب والإدارة المالية، مع التركيز على نمو الموارد، وتحسين بيئة الأعمال.

وقبل الحرب الأهلية الأخيرة، كانت عائدات النفط تشكل أكثر من 90% من دخل الحكومة، فالدولة الجديدة تضم ثالث أكبر احتياطات نفطية في أفريقيا شرق الصحراء، مما يعني أنها واحدة من اقتصادات العالم الأكثر اعتماداً على النفط.

وقد انخفض الإنتاج النفطي بسبب الحرب بنسبة 40%، حيث كانت البلاد تنتج قبلها مباشرة 240 ألف برميل يومياً.

ومنذ آذار مارس 2014، ظلت حقول النفط في منطقة فلوج هي الوحيدة العاملة في البلاد، بعد توقف الإنتاج بولاية الوحدة.

وفي التداعيات الأخرى، قادت الحرب لارتفاع أسعار غالبية السلع الاستهلاكية، فارتفع سعر الدقيق لثلاثة أضعاف في العام الحالي، وذلك فضلاً عن مواد أساسية أخرى، مثل الأرز والزيت.

إن أكثر من نصف سكان البلاد، الذين يبلغون 12 مليوناً، أضحوا بحاجة إلى مساعدة طارئة، حتى أن بعض المناطق تقف على شفير المجاعة، وأصبحت الدولة تعتمد بشكل أساسي على الدعم الخارجي.

ومنذ آذار مارس الماضي، قالت مديرة برنامج الغذاء العالمي، آرثرين كازين، إن أكثر من ثلاثة ملايين شخص في جنوب السودان بحاجة ماسة للغذاء، بسبب الأزمة السياسية والكوارث الطبيعية، وطالبت المجتمع الدولي بالإيفاء بالتزاماته في مساعدة المتضررين.

واعتبرت كازين أنه مع وجود أزمات في دول عدة، فإنه من السهل على العالم أن ينسى جنوب السودان.

والخلاصة، أن الحرب الأهلية الأخيرة في جنوب السودان قد مثلت منحدراً كان على الساسة تجنبه، وإعطاء البلاد فرصتها في مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير ركائز الدولة والارتقاء بها.