صالح عبد الرحمن المانع
هزّت صورة الطفل السوري «إيلان كردي»، ضمير الإنسانية جمعاء، ولم تعد صور اللاجئين السوريين المحمولين في قوارب مهترئة مستترة أو بعيدة عن أعين التلفزيونات والرأي العام، أو محجوبةً عن الناس. غير أنّ مشهد «إيلان» هزّنا جميعاً، فقد حاول والده إرسال العائلة من تركيا إلى اليونان لعلّهم يجدون ملجأً في إحدى الدول الأوروبية، غير أنّ يد القدر قضت على أفراد العائلة ليبتلعهم البحر ويرسل إلينا جثة الطفل الصغير «إيلان»، ليذكّرنا بمصير عائلته وإخوانه.
&
تُرى ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يهرب بجلده وعائلته سوى السعي للنجاة من غائلة الدمار والموت الذي يضرب أطناب بلاده ومدينته وبيته؟ وكيف لإنسان أن يتحمّل براميل البارود تنصبّ من فوق رأسه لتقتل الابن والجار وتهدم البيوت؟ ربما كان هذا منطق الحرب ومصير بعض العرب والكرد والأفغان وغيرهم من أبناء المشرق الذين ابتُليت بلادهم بزعماء لا يقيمون لحياة الإنسان وزناً ويجعلون بقاءهم على هرم السلطة أسمى وأغلى ثمناً من حياة طفل صغير، أو امرأة، أو رجل مُسن. لقد عانى الشعب السوري الشيء الكثير، فأكثر من نصف سكان البلاد فرّوا ونفدوا بجلودهم، وتحوّل نصف هذا الشعب إلى لاجئين في بلاد قريبة في الأردن وتركيا والعراق ولبنان، أو فرّوا إلى بلاد وأصقاع بعيدة. وأبناء هذا الشعب يفعلون بالضبط ما فعله من سبقوهم من اللاجئين من قبل، الذين عانوا ويلات الحروب والتهجير، فالتاريخ لا يرحمهم، ولا يرحمنا. وهناك مليونا فلسطيني لا زالوا في مخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. وهناك مليونا لاجئ عراقي مشتتون بين الداخل والخارج. حتى أنّ اللاجئ العراقي من محافظة الأنبار يحتاج إلى شهادة استقدام، أو كفيل، لكي يدخل عاصمة بلاده، مدينة الرشيد، بغداد. ويتساءل المرء: لماذا يُفرض ذلك على الناس؟ ومتى كان المواطن يحتاج إلى تأشيرة لدخول مدينة في بلاده؟ لكن هذه هي حياة اللاجئين.
وعندما يحلم اللاجئ بحياة سعيدة ومستقبل أكثر ازدهاراً لأبنائه في بلاد غريبة وباردة وبعيدة عن مسقط رأسه، قد لا يجد مفراً من أن يجازف بحياته ليركب مراكب الموت التي تنقله من تركيا إلى إحدى الجزر اليونانية، أو من ليبيا، حيث الدمار والقتل، إلى إحدى الجزر الإيطالية. وربما حُمِّلت السفينة بأكثر من طاقتها، فإذا بها في الغالب لا تقدر على مكابدة أهوال البحر، فتنقلب أو تتكسر بفعل الأمواج. ويموت الناس، وهم على مقربة من شواطئ النجاة، وليتهم كانوا يعلمون أنّ موتهم الذي هربوا منه في بلادهم، سيأتي ليصطادهم في بحار بعيدة هائجة. وحين ينجح بعضهم في ركوب الموج ويصل إلى السواحل الأوروبية، فإن عليه السير على الأقدام لمسافات بعيدة. فبعد 300 كلم من الإبحار، يكون عليه أن يقطع نحو 1600 كلم، عبر أراضي اليونان وصربيا والمجر والنمسا وأخيراً ألمانيا، أي أرض الميعاد لمعظم هؤلاء المهاجرين. وربما ذهب بعضهم إلى هولندا والسويد والنرويج. وهكذا هي المسيرة التي قد تصل إلى 2000 كلم منذ مغادرة المعسكرات الإيوائية في تركيا وحتى الوصول إلى بلدٍ جديد يرحب بهم في وسط أوروبا أو شمالها.
والحقيقة أننا طالما انتقدنا الأوروبيين بسبب بعض سياساتهم العنصرية، غير أنّ مواقفهم الإنسانية النبيلة تجاه هؤلاء المهاجرين، ترينا كيف أنّ إنسانيتهم قد تسامت. ففي بعض البلدان العربية لا قيمة للإنسان ولا للإنسانية، ولكن في مثل هذه البلدان الأوروبية، ما زال الإنسان يشعر بقيمة الآخرين ولازال يقدّر حياتهم. لقد أيقظ «إيلان» وأخوه غالب كردي، فينا جميعاً، عرباً وأوروبيين، معنى الحياة ومعنى معاناة اللاجئ المقهور الذي طُرد من بلاده. وإن كان «إيلان» وغالب وأطفالاً آخرين ماتوا في عرض البحر، فإن شخوصهم وذكرى ضحكاتهم قد تجلّت وكان لها وقعها في قلوبنا وفي أفئدتنا جميعاً.
واللاجئ ليس عبئاً على أحد، فهو يحتاج إلى من يمدّ له يد العون في محنته، غير أنه سرعان ما يقف على قدميه، ويرد الجميل بالعمل الجاد والمشروع ويساهم مساهمة جيّدة في اقتصاد بلاده الجديدة. ولمن يشكك في ذلك، فليزر الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من البلدان. فاللاجئون (اقتصادياً أو سياسياً)، هم الذين بنوا اقتصاد هذه البلدان وعززوا من فائض الإنتاج فيها، وفي الجيل الثاني من هؤلاء اللاجئين نجد مستوى التعليم القوي الذي حصلوا عليه قد ساعدهم على أن يتبوأوا مناصب جيدة في بلدانهم حتى غدا عددٌ منهم في صفوف الطبقة الوسطى من أطباء وأساتذة ومهندسين وغيرهم، وربما وصل بعضهم إلى مرتبة الوزير حتى في أكثر البلدان الغربية محافظة مثل بريطانيا.
وهكذا هم اللاجئون اليوم، عبء قصير المدى ومكسب طويل المدى، فلنفتح قلوبنا وأذرعنا لهم، وشكراً «إيلان كردي»، فلقد أيقظت فينا إنسانيتنا.
&
التعليقات