صالح القلاب

حتى بعد التأكد من وصول أعداد بالمئات من الجنود الروس (قوات خاصة) إلى القاعدة الجوية التي أقامتها روسيا في منطقة اللاذقية، خلال الأيام القليلة الماضية، وحتى بعد التأكد من وصول دبابات روسية بـ«أطقمها» إلى هذه القاعدة، فربما من المبكر الحديث عن «شراكة مباشرة» لهذه الدبابات وغيرها ولهؤلاء الجنود وغيرهم في القتال المحتدم بين نظام بشار وفصائل المعارضة (المعتدلة)، وعن تورط روسي شامل في سوريا مثل تورط موسكو في أفغانستان، ذلك التورط الذي كانت نهايته انهيار الاتحاد السوفياتي ونهايته تلك النهاية المأساوية المعروفة.

لا شك في أن موسكو متطلعة إلى دور ليس مساويًا وإنما أكثر تأثيرًا وأهمية من دور الاتحاد السوفياتي في ذروة تألقه، في هذه المنطقة التي من الواضح أنها لا تزال وستبقى من أهم مناطق العالم حيوية وتأثيرًا بالنسبة للغرب وللشرق الذي يعتقد أنه ناهض من جديد مرة أخرى بعد كبوة انهيار «الإمبراطورية السوفياتية»، خاصة أن هناك اعتقادًا يصل إلى حد القناعة غير القابلة للنقاش بالنسبة للحالمين أكثر من اللزوم، بأن «الإمبراطورية» الأميركية بدأ أفول نجمها وأن نهايتها قد تصبح غير بعيدة إن لن تتوفر لها إدارة جديدة نتيجة للانتخابات المقبلة تنتشلها من تراجع السنوات السبع الماضية خاصة في الشرق الأوسط.

لكن، ومع أن الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، ومعهما الذين يشاركونهما في الحكم وفي التطلعات من وراء الكواليس، يريان، وهما يمارسان هذه القناعة، أن روسيا، بحكم عوامل الجوار والقرب وعدم التورط في «سايكس - بيكو» وفي المؤامرات التي حاكها الغرب المنتصر في الحرب العالمية الأولى ضد العرب في هذه المنطقة وفي العالم العربي بصورة عامة، هي الأولى بأن يكون لها الوجود الفاعل في الشرق الأوسط، لكن، ومع ذلك، من المبكر الحديث عن تورط روسي في الشرق الأوسط الملتهب، الذي ليس بالإمكان الجزم بما سيكون عليه في المستقبل القريب جدًا، مثل تورط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان؛ ذلك التورط الذي كان بمثابة كبوة قاتلة ومميتة بكل معنى الكلمة.

وهنا، ومع استبعاد تورط فلاديمير بوتين في سوريا التي تعيش الآن في عهد بشار الأسد أوضاعًا أسوأ كثيرًا من الأوضاع التي كانت تعيشها أفغانستان في عهد حفيظ الله أمين وعهد بابراك كارمال، وتورط ليونيد بريجنيف في المأزق الأفغاني، فإن هناك أدلة ومؤشرات على أن موسكو لم تعد وسيطًا «منحازًا» في هذه الأزمة المتفاقمة فقط، بل فاجأت حتى الذين راهنوا على «وساطتها» المنحازة هذه بانتقالها المعلن والواضح إلى الدائرة الملتهبة التي يقف فيها هذا النظام السوري، وأنه قد تكون لها، وخلال أيام قليلة، شراكة مباشرة في هذا القتال.. والاقتتال الدموي المدمر المحتدم في كل شبر من الأراضي السورية.

ولعل ما قد يغري روسيا ويدفعها إلى مزيد من التورط العسكري والسياسي في الشؤون الداخلية السورية هذه التصريحات التي صدرت تباعًا عن كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية الأميركية، التي تحدثت عن أن سوريا ذاهبة إلى أن تصبح ثلاث دويلات «مذهبية وعرقية»!! وهذا قال مثله هؤلاء وأكثر منه عن العراق، حيث قالوا أيضًا إن «السوريين والعراقيين ما عادوا يتصرفون بوصفهم مواطنين أو وطنيين، ولكن بوصفهم طائفيين ومذهبيين وعشائر متحاربة ومتقاتلة».

وهكذا، فإن الروس عندما يسمعون مثل هذا الكلام، الذي لا شك أن فيه بعض الصحة في هذه المرحلة البائسة والمريضة من تاريخ العرب وتاريخ هذه المنطقة والسبب أن إيران بعد انتصار ثورتها الخمينية في عام 1979 باتت تسعى للتمدد في دول الجوار تمددًا فارسيًا بغطاء مذهبي.. يرون أن من حقهم أن يكون لهم موطئ قدم على سواحل البحر الأبيض المتوسط الشمالية، وأن تكون روسيا، من خلال القاعدة البحرية «المقاتلة» التي أقامتها إلى الجنوب من اللاذقية، الكفيل الأوحد للدولة النصيرية (العلوية) التي من الواضح أنها غدت الرهان الرئيسي الذي لا رهان غيره لهذا النظام المتهاوي، وذلك رغم أنه لا يزال يلوح بشعار: «أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة»!!

بعد الإعلان مؤخرًا عن اكتشافات الغاز الواعدة والهائلة في المياه الاقتصادية المصرية في البحر الأبيض المتوسط، وقبل ذلك في شواطئ غزة وقريبًا من «الشواطئ الإسرائيلية»، وفي المياه الاقتصادية اللبنانية والقبرصية، فإنه أمر متوقع أن تبادر روسيا المصابة بالذعر على مستقبل غازها وإيصاله إلى ألمانيا وإلى دول أوروبية أخرى بالأسعار المرتفعة الحالية، إلى هذا التصعيد الأخير، وأن تسعى سعيًا جادًا هذه المرة إلى دعم نظام بشار الأسد ومعه من يسانده داخليًا وإقليميًا في إقامة «كانتونه» الطائفي والمذهبي في منطقة اللاذقية على غرار دعمها ومساندتها إقامة «كانتونين» قوميين في منطقة «الدونباس» في أوكرانيا.

ومشكلة الروس، الذين أسمعوا كثيرًا من المسؤولين العرب كلامًا جميلاً في الفترة الأخيرة، أنهم اقتربوا بالحديث عن «الأزمة اليمنية» من اللغة نفسها التي كانوا وما زالوا يتحدثون بها عن الأزمة السورية، فنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، حسب ما نقله سياسيون لبنانيون زاروا موسكو مؤخرًا من قبيل تأكيد دعمهم للرئيس السوري ونظامه ولحربه التدميرية على شعب من الواضح أنه لم يعد شعبه، قد قال: «روسيا تحمل مسؤولية تدهور الأوضاع في اليمن إلى (طرفي الصراع)». وهذا في الحقيقة تحول، إن كان هذا المسؤول الروسي قد قال مثل هذا الكلام بالفعل، خطير جدًا، وهو ينسجم مع تصعيد موسكو الأخير على الساحة السورية، ومع سياسة تبادل الأدوار في المنطقة بين طهران (الخامنئية) والعاصمة الروسية.

والمستغرب أن موسكو مصرة على رفع راية مقاومة الإرهاب و«داعش»، إضافة إلى تصعيدها المتواصل الأخير في سوريا، فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي بات من غير المختلف عليه أنه هو من يرسم السياسات السورية ويديرها، قد واصل، بينما روسيا مستمرة في هذا التصعيد الأخير، معزوفة أنه: لا بديل عن بشار الأسد للقضاء على «داعش»، وأنه يجب إقامة تحالف دولي جديد بمشاركة هذا النظام لمقاومة ومواجهة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية.. وكل هذا وموسكو تعرف تمام المعرفة أن هذه التنظيمات الإرهابية كلها، ومن بينها هذا التنظيم المجرم الذي يسمي نفسه «الدولة الإسلامية»، صناعة إيرانية بمشاركة بشار الأسد ومخابراته ونظامه، وبمشاركة نوري المالكي الذي كان ألزم الجيش العراقي بانسحاب «كيفي» من الموصل، وسلمها تسليم اليد لتنظيم «داعش» الإرهابي.

إنها لعبة واضحة ومكشوفة، فلو أن روسيا معنية بالفعل بمواجهة الإرهاب والقضاء عليه، ما سمحت لإيران ونظام بشار الأسد بالتواطؤ مع «داعش»، ولكانت انضمت مبكرًا إلى هذا التحالف الدولي الذي كان قد تشكل لمقاومة هذا التنظيم المجرم، وأيضًا مقاومة التنظيمات الإرهابية الأخرى.. وهنا، فإن ما لا يدركه البعض أن كبار المسؤولين الروس عندما يتحدثون عن الإرهاب في سوريا، فإنهم يقصدون الجيش السوري الحر والمعارضة السورية المعتدلة، وإنهم يفعلون مع هذه المعارضة نفس ما كانت تفعله إسرائيل، قبل اتفاقيات أوسلو، مع منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية.

والسؤال الأخير، ونحن بصدد الحديث عن هذا التصعيد الروسي الأخير، هو: كيف من الممكن يا ترى تفهم كل هذا الذي تقوله روسيا وهي تقبل بكل هذا التدخل الإيراني العسكري والسياسي في الشؤون الداخلية السورية..؟ وكيف تقبل روسيا بوجود نحو أربعين تنظيمًا طائفيًا مقاتلاً مستوردًا في سوريا وذلك في الوقت الذي تضع فيه «داعش» والجيش السوري الحر والمعارضة المسلحة (المعتدلة) في سلة واحدة؟