غسان بادكوك

برغم الظروف غير المواتية لأسعار البترول، صدرت ميزانية المملكة مؤخرا بأرقام جيدة، سواء من حيث الإيرادات أو المصروفات، وكان أبرز إنجازاتها في تقديري هو تقليل الاعتماد على عوائد النفط التي تراجعت لأول مرة منذ عقود إلى ٧٣%‏ من إجمالي الدخل، هذا التراجع المهم هو مؤشر قوي الدلالة على فعالية مبادرات مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الرامية لتنويع الاقتصاد، وفي مقابل ذلك، سجلت الميزانية تطوراً لافتاً آخر؛ تمثل في ارتفاع دخل الخزانة العامة من المصادر غير البترولية، حيث حققت تلك الإيرادات نموا (فعلياً) بنسبة ٣٠%‏ من إجمالي الدخل لتصل إلى نحو ١٦٤ مليار ريال؛ ويعود جانب من ذلك النمو إلى زيادة أرباح صندوق الاستثمارات العامة، ورفع مستوى تحصيل الإيرادات الحكومية، هذا إلى جانب اتخاذ إجراءات فعلية لضبط الإنفاق الحكومي، ورفع كفاءة الصرف، والحد من الهدر، وعدم تجاوز الإنفاق الفعلي للمبلغ المعتمد في الميزانية.

ومع إدراكي التام لمقدار الجهد المبذول في إخراج الميزانية بالشكل الذي صدرت به بهدف تجنيب اقتصادنا تباطؤ النمو، إلا أننا نأمل أن تكون الميزانية (صفرية)؛ بمعنى أن يتساوى فيها الدخل مع الإنفاق، لأن صدور ميزانية (متوازنة) من شأنه تجنّب العجز الذي قدّرته الميزانية الجديدة بملبغ ٣٢٦ مليار ريال، أقول ذلك مع علمي بأن الدين العام لا يزال عند مستوى مقبول جدا وبنسبة ٥.٨%‏ من الناتج الإجمالي المحلي في نهاية عام ٢٠١٥ بعد إصدار سندات بقيمة ٩٨ مليار ريال العام الماضي؛ وهو ما رفع الدين العام بأكثر من ٤%‏ خلال العام الماضي ليصل إلى نحو ١٤٣ مليار ريال.

وعلى ضوء ما تقدم فقد يكون من المهم تقليل الاقتراض إلى أدنى حد ممكن، لذلك فقد يكون من المناسب قصر إطفاء العجز عن طريق إصدار الصكوك بدلاً عن السندات، لاسيما لتمويل المشروعات الجديدة، لما لذلك من مزايا عديدة سبق وأن أشرت إليها بالتفصيل في مقال سابق بعنوان (خيارات مواجهة عجز الميزانية وتراجع الدخل) المنشور في (عكاظ) بتاريخ ١٢سبتمبر الماضي حيث تمتاز الصكوك بكونها أوراقا مالية استثمارية؛ تدعمها مشاريع لها أرباح، لذلك أعتقد أن من المناسب إعطاء الأولوية للصكوك للتخفيف من عجز الميزانية، كما أنها منخفضة المخاطر مقارنة بالسندات، هذا فضلاً عن دورها في حفز الاستثمارت محلياً ودولياً.

أما لو انتقلنا لجزئية أخرى هامة في الميزانية، فلعلها المرة الأولى -منذ سنوات عديدة- التي لا تتضمن فيها ميزانيتنا بنداً (ثابتاً) للمشروعات الرأسمالية، حيث تمت الاستعاضة عن ذلك ببند جديد يتسم بقابليته للتغيير وفقاً للظروف؛ أُطلق عليه مسمى (مخصص دعم الميزانية العامة) ومقداره ١٨٣ مليار ريال، وما يُفهم منه هو أنه بديل (متغيِّر) لتمويل البرامج والمشروعات الجديدة؛ ويبدو أن الهدف منه هو إتاحة أكبر قدر من المرونة الحكومية للتعامل مع تقلبات أسعار النفط، ولو تم خصم مبلغ هذا البند من إجمالي مصروفات الميزانية؛ باعتبار أن الصرف منه سيتوقف على توجُّه الأسعار، فإن النفقات ستنخفض إلى ٦٥٧ مليار ريال بدلاً عن الـ ٨٤٠ مليارا الواردة في الميزانية.

ورغم أنني من مؤيدي رفع الدعم عن المنتجات البترولية لزيادة كفاءة استخدامها والحد من معدلات نمو الطلب المتسارع عليها، كما سبق لي أن دعوت لذلك مراراً، إلا أنني كنت أفضل أن يتم رفع دعم الوقود بشكل تدريجي وبنسبة زيادة لا تتجاوز ١٠%‏ سنويا للعديد من الأسباب، في مقدمتها عدم اكتمال مشاريع النقل العام، وقد شهدنا كيف أن الكثير من محطات الوقود أغلقت مضخاتها بمجرد إعلان الزيادة طمعاً في بيع مخزونها (القديم) بالسعر (الجديد)!.

والأكيد هو أن صدور الميزانية بالشكل الذي صدرت به، هو إنجاز جيد ويستحق الإشادة، خصوصا بعد الإعلان عن نفقات القطاعين العسكري والأمني؛ الأمر الذي ينطوي على رسائل سياسية وعسكرية مهمة، ويضاف إلى ذلك النجاح الملحوظ في رفع نسبة الدخل غير النفطي، وهو ما يعكس عزم الحكومة على المضي قدماً في برنامج الإصلاح الاقتصادي ومعالجة التشوهات الهيكلية المتراكمة منذ عقود عبر آليات عديدة ترتكز على رفع كفاءة الإنفاق بشقيه الرأسمالي والتشغيلي، وتبقى هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام مستقبلا؛ وهي تخفيض سعر برميل النفط الذي تبنى عليه الميزانية تحسبا لهبوط الأسعار إلى قاع جديد.