صالح القلاب

باستحياء وبمواربة واضحة اعترف وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأن هناك فعلاً «ورقة» أميركية تتضمن اقتراحًا ببقاء بشار الأسد رئيسًا لسوريا حتى بدايات عام 2017، وهذا يعني أن هناك ترتيبات تم الاتفاق عليها، من دون معرفة الأطراف المعنية الأخرى بشأن الأزمة السورية، بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وهذا يفسِّر معنى ابتعاد الأميركيين والنأي بأنفسهم عن هذه القضية وإفساح المجال للروس، ليفعلوا ما يشاءون، وليتركوا «داعش» وشأنه، ويستهدفوا عسكريًّا حتى المعارضة (المعتدلة) وحتى المواطنين السوريين الذين لا حول لهم ولا قوة.


ربما أن هناك ما يبرر انكفاء الإدارة الأميركية وانسحابها تسللاً من جهود ومحاولات إيجاد حل معقول ومقبول للقضية الفلسطينية، فالفترة فترة انتخابات رئاسية، والرئيس الأميركي باراك أوباما أثبت خلال ولايته الأولى، وما مضى من ولايته الثانية، أنه أضعف رئيس أميركي ولج أبواب البيت الأبيض، وأنه لا يملك القدرة وربما ولا الرغبة لمواجهة لا هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية ولا مجموعات الضغط الصهيونية وفي مقدمتها الـ«أيباك» التي لها تأثير رئيسي في صنع قرارات واشنطن المتعلقة بالصراع في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية.


أما أن ينكفئ الأميركيون على هذا النحو ويتركوا أكثر ساحات الشرق الأوسط خطورة والتهابًا للروس ليفعلوا فيها ما يشاءون، وليصوغوا معادلة عسكرية وسياسية.. واقتصادية تضمن بقاءهم في الشرق الأوسط ربما لقرن بأكمله، فإن هذا يدل على أنهم فعلاً قد نقلوا اهتمامهم إلى الشرق الأقصى، وإلى أميركا اللاتينية وغرب أفريقيا، أو أنهم في عهد هذه الإدارة المترددة لم يجدوا أن هناك ما يعيبهم في أن يرفعوا أيديهم عاليًا استسلامًا للرئيس فلاديمير بوتين، واعترافًا بأن وضعية القطب الدولي الأوحد قد ولت بلا رجعة، وأن روسيا قد استعادت مكانتها السابقة إنْ في عهد الاتحاد السوفياتي، وإنْ في عهد الإمبراطورية القيصرية عندما كانت في ذروة تألقها.
والغريب أن هذه الإدارة الأميركية، التي تتصرف بأسلوب وبطريقة من يضع كفيه فوق عينيه ليس حتى لا يراه الآخرون، لكن حتى لا يرى هو الآخرين، قد بقيت تتصرف تجاه هذه الأزمة السورية المستفحلة وهي تخبئ ورقتها الآنفة الذكر عمن من المفترض أنهم حلفاؤها، كأنها لم تسمع تأكيد فلاديمير بوتين على أن بشار الأسد سوف يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة، مما يعني أن روسيا باتت تطارد وتلعب في هذا الميدان وحدها، وأنها لم تعد معنية حتى بمجاملة دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهذا في حقيقة الأمر تتحمل مسؤوليته إدارة الرئيس باراك أوباما التي بقيت تتراجع خلال الأعوام الأربعة الماضية، بالنسبة للأوضاع الملتهبة في سوريا، خطوة بعد خطوة، وإلى أن أصبحت الأمور على ما هي عليه الآن، وغدت سوريا مستعمرة روسية يفعل فيها الروس ما يحلو لهم وما يشاءون.


حتى بالنسبة لمحادثات ومفاوضات الخامس والعشرين من هذا الشهر، بين المعارضة السورية ونظام بشار الأسد، فإن الغياب الأميركي واضح وضوح الشمس، واللافت أن هذا الغياب الأميركي يكمله غياب أوروبي، مما يعني أن الأوروبيين، بعد ضربات «داعش» الأخيرة في باريس، قد تسلموا رسالة الفاعلين، وفضّلوا الابتعاد عن هذه الدائرة الملتهبة وترك قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين ليفعل في الشرق الأوسط ما يشاء وما يحلو له. وهكذا فلربما أن اجتماع جنيف الآنف الذكر لن ينعقد نهائيًا ما دام الروس يعتقدون أنهم قد ضمنوا بقاء بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى أبريل (نيسان) العام المقبل 2017، وفقًا للورقة الأميركية التي يخبئها جون كيري في جيبه، ولم يطلع عليها حتى حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، وما دام رئيس النظام السوري قد أعلن سلفًا ومنذ فترة سابقة بعيدة أن كل تنظيمات المعارضة المسلحة تنظيمات إرهابية، وأنه لا يمكن أن يفاوض أي قوى إرهابية، ولهذا فإن المعروف أنه اشترط أن يعرف سلفًا ومسبقًا أسماء أعضاء وفد المعارضة المفاوض، وأن يتسلم قائمة بأسماء الفصائل التي جرى تصنيفها على أنها تنظيمات إرهابية.


ثم وباستثناء تصريحين متضادين؛ الأول اعتبر أن أحكام القصاص التي أصدرتها المحاكم السعودية ضد 47 إرهابيًا ستؤدي إلى «توترات طائفية»، والثاني وصف إيران بأنها دولة راعية للإرهاب، فإن الملاحظ أن الولايات المتحدة قد حرصت على ألا تتعاطى مع هذا التطور الخطير المتمثل في الاعتداءات الإجرامية السافرة على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد بالجدية المتوقعة، وهذا مع أن المفترض أنها تدرك وتعرف أنَّ أي خطأ في الحسابات وتحديدًا من قبل دولة الولي الفقيه التي تتنازع اتخاذ القرارات فيها مراكز قوى متعددة وكثيرة قد يؤدي إلى اشتعال المنطقة كلها بحرب جديدة ستكون وبالتأكيد، إنْ هي اندلعت، أخطر وأسوأ الحروب المحتدمة الآن!
إن الخطير في هذا كله هو أن انكفاء الولايات المتحدة وابتعادها عن كل هذه القضايا الملتهبة في الشرق الأوسط قد ترتب عليه أن روسيا قد أصبحت ليس رقمًا رئيسيًا، وإنما الرقم الرئيسي في معادلة هذه المنطقة، مما يعني تكريس بشار الأسد ليس لولاية جديدة، بل لولايات متعددة جديدة، وأيضًا تكريس هذا الوضع القائم في العراق وليبيا، وبالطبع في إيران، مما يعني مزيدًا من تجذير الإرهاب؛ «داعش»، و«القاعدة»، و«النصرة» في هذه المنطقة، إذ إن العنف الروسي الذي يستهدف المسلمين السنة في سوريا وتركيا وغيرهما سيؤدي حتمًا إلى تعاظم وطأة هذه التنظيمات الإرهابية، بل وإلى ظهور تنظيمات وتشكيلات متطرفة جديدة، وهنا فإن المشكلة التي يجب أن يفهمها الأميركيون هي أن هناك من بات ينظر إلى الحرب التي تشنها روسيا على الشعب السوري وعلى الشعب التركي على أنها حرب مسيحية ضد الإسلام، وأن فلاديمير بوتين يقود تحالفًا مذهبيًا وطائفيًا ضد الأكثرية المسلمة في هذه المنطقة الملتهبة التي من المنتظر أنها ستزداد التهابًا إنْ قريبًا وإن على المدى الأبعد!
كان على الولايات المتحدة أن تدرك وقبل فوات الأوان أن بقاء بشار الأسد، وأن انفراد فلاديمير بوتين بسوريا.. وبالتالي بالمنطقة، سيؤديان حتمًا إلى مزيد من التوتر المذهبي والطائفي في هذه المنطقة، وبخاصة أن هناك ذلك التحالف الذي يعد نفسه منتصرًا الذي يضم روسيا وإيران، وهذا النظام السوري البائس وأيضًا هذه «التركيبة» التي تحكم العراق بإشراف حراس الثورة والجنرال قاسم سليماني، وهذا يعني أن الأميركيين قد ارتكبوا خطأً فادحًا وقاتلاً عندما بادروا إلى الانكفاء، وترك هذه المنطقة الحساسة لهذا التحالف الذي بتصرفاته وممارساته واستهدافه للأغلبية السنية سيؤدي حتمًا إلى انتعاش «داعش»، و«القاعدة»، بل وإلى ظهور كثير من التنظيمات الإرهابية الجديدة.


إنه لا يمكن أن تكون مواجهة «داعش» و«القاعدة» مثمرة ومجدية إذا بقي هذا الحلف الآنف الذكر يستهدف السنة العرب والسنة الأتراك، وإذا بقيت الولايات المتحدة مصرة على حالة الانكفاء التي تعيشها الآن، كأنه لم يعد لها هم إلا تلك الورقة التي يحتفظ بها جون كيري في جيبه التي تنص على بقاء بشار الأسد في موقع الرئاسة حتى بدايات العام المقبل 2017.. إن الحرب الحقيقية على هذه التنظيمات الإرهابية تستدعي وضع حدٍّ لكل هذه التوترات الطائفية المتصاعدة والمتعاظمة، بسبب الاحتلال العسكري الروسي لهذا البلد العربي، وبسبب التدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية العربية، وبسبب كل هذه الممارسات المذهبية البغيضة إنْ في العراق وإنْ في سوريا وإنْ في اليمن وإنْ في لبنان.


مرة أخرى نقول إن انكفاء الولايات المتحدة وانسحابها من شؤون هذه المنطقة وشجونها قد عزز «التغول» الروسي في الشرق الأوسط كله، وقد فتح المجال واسعًا أمام هذا التحالف الطائفي الذي تقوده روسيا والذي يضم إيران، والعراق وسوريا بوضعهما الحالي، وهذا يعني ومرة أخرى مزيدًا من انتعاش «داعش» و«القاعدة»، ومزيدًا من ظهور تنظيمات إرهابية جديدة.
&