خيرالله خيرالله
&
مرّت قبل ايام الذكرى الخامسة لانتصار «ثورة الياسمين» قي تونس. انتصرت الثورة، وكانت ثورة حقيقية على نظام لم تعد اكثرية التونسيين تتحمّله. توّج انتصار الثورة التي كانت فاتحة «الربيع العربي» يوم اضطر الرئيس زين العابدين بن علي الى مغادرة البلد واللجوء الى المملكة العربية السعودية التي لا يزال فيها الى اليوم مع عدد من افراد عائلته.
&
لم يبق من «الربيع العربي» سوى ثورة تونس التي هناك من لا يزال يعلّق عليها الآمال، علما ان الخوف على مستقبل تونس ومن سقوطها يتفوّق على كلّ الآمال المعلّقة على التجربة التي مر فيها البلد في السنوات الخمس الأخيرة.
&
كانت للتجربة التونسية ايجابيات كثيرة، لكنّ الواضح انّها تمرّ حاليا بمنعطف نظرا الى انّ هناك ازمة تعصف بالحزب الذي يمتلك اكبر عدد من النوّاب، وهو «نداء تونس». هل يمكن انقاذ «ثورة الياسمين» قبل فوات الأوان؟
&
كانت هناك مآخذ كثيرة على زين العابدين بن علي الذي اقام نظاما بوليسيا منذ اللحظة التي خلف فيها الحبيب بورقيبة في السابع من نوفمبر 1987 بمساعدة من ضابطين قريبين منه هما الحبيب عمّار وعبد الحميد الشيخ. كان اوّل ما فعله التخلص من رفيقيه، تمهيدا للتفرّد بالسلطة على طريقة اي ديكتاتور عربي او من العالم الثالث. بعد ذلك، ادار البلد على طريقة ضابط يعمل رئيسا لمخفر للشرطة في احد احياء العاصمة التونسية.
&
تكفّل بن علي، الذي لا يمكن انكار ايجابيات معيّنة لنظامه، خصوصا في المجال الاقتصادي، بتهميش كلّ السياسيين التونسيين. ولكن، لا بدّ من الاعتراف، استنادا الى لغة الأرقام، ان تونس حقّقت في عهده تقدّما كبيرا شمل زيادة عدد العائلات المنتمية الى الطبقة المتوسطة. المؤسف انّه لم يعد في السنوات الأخيرة من عهده، الذي استمر نحو ربع قرن، من مكان سوى للسيدة الأولى ليلى بن علي التي هيمنت مع افراد عائلتها على قسم لا بأس به من القطاع الاقتصادي، وحتّى على جانب من القرار السياسي في البلد.
&
من ايجابيات بن علي انّه استعان، في العمق، بارث الحبيب بورقيبة باني تونس الحديثة، رغم انّه فعل كلّ شيء كي ينسى التونسيون وجود هذا الرجل الذي توفّى في السنة 2000 عن عمر قارب المئة. لم يلغ القوانين الحديثة التي اقرّت في عهد «المجاهد الأكبر»، على العكس من ذلك، سعى الى تطويرها، مؤكدا حقوق المرأة. كانت مشكلته الأساسية في انّه لم يحط نفسه سوى بموظّفين صغار وليس برجال دولة كما فعل سلفه. لم يستطع تحمل بروز اي وزير او موظّف كبير يمتلك حيثية ما.
&
في مرحلة ما بعد بن علي، يبدو مؤسفا غياب السياسيين القادرين على التعاطي مع الماضي من دون عقد ومن دون تكرار الأخطاء، بدل الاستفادة منها. هناك رفض للاعتراف بأنّ في الإمكان البناء على ايجابيات عهدي بورقيبة وبن علي من جهة وتفادي السلبيات من جهة اخرى. صحيح انّه يمكن فهم عقدة الإسلاميين مثل الشيخ راشد الغنوشي، زعيم «النهضة» الذي لا يستطيع الإقرار بأن بورقيبة بنى مؤسسات لدولة حديثة واقرّ قوانين ذات طابع طليعي على صعيد المنطقة كلّها، لكنّ الصحيح ايضا انّ الباجي قائد السبسي يرفض بدوره اخذ الدروس من تجارب الماضي القريب.
&
انتهى بورقيبة عمليا عندما نصّب نفسه «رئيسا لمدى الحياة» وعندما عجز عن استيعاب ان العمر تقدّم به وانّه صار تحت رحمة القريبين منه من افراد العائلة. على رأس هؤلاء كانت ابنة اخته سعيدة ساسي. كان التخلص منه لاسباب «طبّية»، وبالتي هي احسن، اكثر من ضروري في 1987، لولا ان بن علي اختار التفرّد بالسلطة واقامة نظام لا حياة سياسية من ايّ نوع فيه. كان هناك تشجيع على قيام احزاب معارضة من اجل المنظر فقط.
&
كان الباجي قائد السبسي من الذين عايشوا بورقيبة ورافقوا كلّ مرحلة من مراحل عهده. شغل موقع وزير الخارجية فترة لابأس بها في ايام «المجاهد الأكبر». ليس جائزا ان يكرّر الأخطاء التي ارتكبها الرجل الذي اسّس لتونس الحديثة. بل ليس جائزا ان يزيد على الاخطاء التي ارتكبها بورقيبة. لم يلجأ بورقيبة الى توريث ابنه الوحيد وكان اسمه الحبيب جونيور. كان اكثر وعيا من الإقدام على هذه الخطوة. نجد الآن الباجي قائد السبسي يعمل كلّ شيء من اجل ان يخلفه نجله، ويدعى حافظ، على رأس «نداء تونس».
&
من ايجابيات «ثورة الياسمين» وقوف المواطنين التونسيين، على رأسهم المرأة، في وجه المحاولات المستمرّة التي بذلتها حركة «النهضة» للهيمنة على البلد. واجه التونسيون الحزب الإسلامي وصمدوا في وجه الإرهاب الذي ضرب في مناطق عدّة. ليس طبيعيا سقوط الباجي قائد السبسي في الفخّ الذي ينصب لتونس بتمسّكه بالتوريث وبالبقاء في السلطة على الرغم من بلوغه الـ88. يفترض به ان يتذكّر ان بورقيبة اضطر الى الذهاب الى منزله وهو في الـ84 من العمر بعدما فقد الكثير من قدراته الذهنية والجسدية.
&
هل من امل في انقاذ «ثورة الياسمين»؟ هل من امل في ان يقدم الباجي قائد السبسي على خطوة تعيد التماسك الى «نداء تونس» الذي كان امل التونسيين ورأس الحربة في مواجهة التخلّف... ام سنرى في تونس خيبة اخرى من خيبات «الربيع العربي»؟
&
هناك خوف على تونس. مصدر الخوف ان بن علي اتخذ في مرحلة معيّنة كلّ الترتيبات كي يقوم بانقلابه مع رفاقه العسكريين. جلس ينتظر بلوغ حال الاهتراء اللحظة التي يتقبّل فيها التونسيون التغيير.
&
هناك حاليا اهتراء على كلّ صعيد في تونس، خصوصا داخل «نداء تونس». ليس مستبعدا ان يكون الإخوان المسلمون ينتظرون اللحظة المناسبة كي يكرّروا تجربة بن علي. ففي حال استمرّت الأمور على ما هي عليه، ليس مستبعدا ان يظهر راشد الغنوشي وكأنّه المنقذ. هل من يستطيع اقناع رئيس في الثامنة والثمانين انّ المطلوب تفادي السقوط في التوريث وان «ثورة الياسمين» في خطر حقيقي، خصوصا في ظل حال التردي الأمني وفي ظلّ مؤشّرات اقتصادية لا تبشّر بالخير؟
&
على العكس من ذلك، هناك تونسيون، يشكلون اكثرية، بدأوا يترحمون على عهد بن علي. هذا على الأقلّ ما يؤكّده زوار تونس هذه الأيّام. الناس تترحّم على العهد السابق على الرغم من مساوئه الكثيرة وظهور «السيّدة الأولى» وكأنّها الوريث الشرعي لزوجها. هناك من هو مستعد لتناسي ذلك والقول فقط ان عهد بن علي كان عهد امان وامن وعهد بحبوحة اقتصادية، الى حدّ ما طبعا!