عاصم عبد الخالق

لا تدع الحكومة الأمريكية فرصة تمر دون أن تؤكد التزامها بمواصلة الحرب ضد «داعش» حتى النهاية، أي نهاية التنظيم الإرهابي بتصفيته أو شل قدرته على الحركة والتهديد. ولا يكاد ينقطع سيل التصريحات الأمريكية عن الغارات المظفرة التي تقوم بها الطائرات، ونجاحها في تقطيع أوصال «داعش» وتدمير خطوط اتصاله ومصادر تمويله إلى غير ذلك من إنجازات.


كل هذه أنباء طيبة وجهد محمود، وليس لدى أحد شكوكاً في أن واشنطن تقاتل «داعش» بالفعل، ولكن جديتها في هذا القتال أو مصداقية ما تعلنه من بيانات، وحقيقة النتائج التي تسفر عنها غاراتها، كل هذه مسائل مختلف عليها، وتحتاج إلى تأكيدات موثقة يعززها واقع ملموس على الأرض.


الأرقام المتوفرة تقول إنه منذ بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها الهجمات الجوية ضد «داعش» في يونيو/حزيران 2014 بلغ عدد الغارات 9041 غارة منها 5959 على أهداف في العراق و3082 في سوريا. ويمثل هذا العدد الضخم من الغارات مؤشراً مقبولاً عن حجم القصف وكثافته.


وهناك إحصائية مهمة أخرى أعلنها مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي تعزز هذا الاعتقاد، فهي تشير إلى أن الطائرات الأمريكية ألقت خلال 2015 نحو 23 ألفاً و144 قذيفة على 6 دول تشملها الحرب ضد الإرهاب. وكان للعراق وسوريا نصيب الأسد بالطبع، حيث ألقت الطائرات على البلدين 22 ألفاً و110 قذائف. بينما تلقت أفغانستان 947 قذيفة، وألقي على اليمن 58 قذيفة. وكان حظ الصومال أفضل بعض الشيء حيث بلغ نصيبها 18 قذيفة فقط، أما باكستان فكانت الأسعد باستقبال 11 قنبلة أو صاروخاً لا غير طوال العام.


ويرتفع الرقم الإجمالي لحجم الحمم الساقطة من السماء على تلك الدول إلى 28 ألفاً و714 قذيفة إذا أضفنا المجهود الحربي للدول الحليفة.


السؤال الذي يفرض نفسه هو ماذا عن النتائج التي أسفر عنها هذا الجهد العسكري الجبار؟ سندع الإجابة في حالة أفغانستان إلى مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية الشهيرة التي ذكرت قبل أسبوع أن طالبان أصبحت تسيطر على مساحات من الأراضي داخل أفغانستان أكثر من تلك التي كانت تحت سيطرتها قبل الغزو الأمريكي في 2001.


بالنسبة إلى «داعش» فإن هجماته التي أصبحت تمتد على رقعة واسعة تتجاوز حدود نشاطه الجغرافي التقليدي في العراق وسوريا تقدم إجابة وافية وحاسمة عن فاعلية الحرب الأمريكية ضده.
&

وقد نشر «مركز هارتيدج الأمريكي للدراسات السياسية» خريطة مهمة توضح أشكال التمدد في وجود أنشطة «داعش». قسمت الخريطة العالم إلى 3 فئات: أولها تضم بلداناً يسيطر فيها «داعش» على مساحات من الأراضي وتضم سوريا والعراق وليبيا. الفئة الثانية لدول فيها جماعات مسلحة أعلنت الولاء ل«داعش» أو تعاونها معه، وتضم 12 دولة هي: الجزائر، اليمن، مصر، تشاد، نيجيريا، الكاميرون، لبنان، النيجر، أفغانستان، بنغلاديش، إندونيسيا وباكستان. وتضم الفئة الثالثة الدول التي اعتقلت سلطاتها أعداداً من أنصار «داعش» من دون وجود تنظيم يجمعهم، وهي المغرب والأردن والسعودية وتركيا.


لم تذكر الخريطة الدول التي ينتشر فيها متعاطفون مع التنظيم من غير الأعضاء النظاميين فيه. وتطلق عليهم الصحف الغربية اسم «الذئاب المنفردة» لأنهم يشنون عمليات إرهابية من دون تعليمات من «داعش»، ولكن بسبب تأثرهم بالدعاية الكاذبة والأفكار المسمومة التي يبثها التنظيم عبر الإنترنت.


أمام تلك الحقائق الدامغة يصبح من الصعب، إن لم يكن المستحيل، التسليم بصحة ومصداقية ما تعلنه السلطات الأمريكية لاسيما عندما تتناقض البيانات الصادرة عن أكثر من جهة رسمية. سنكتفي بمثالين: الأول ما ذكرته الإدارة من أن «داعش» لم يعد يسيطر سوى على ما بين 25 إلى 30% فقط من الأراضي التي كانت بحوزته قبل الغارات. غير أن مجلة «كومنتري» الأمريكية أكدت في تقرير لها الأسبوع الماضي أن «داعش» لم يخسر في الواقع إلا 14% فقط من أراضيه. وإذا كانت الجماعة قد خسرت الرمادي في العراق فما زالت تسيطر على ما هو أهم أي الفلوجة والموصل. أما معظم ما استولى عليه من أراض في سوريا فما زال تحت سيطرته.


المثال الآخر يتعلق بتناقض البيانات الرسمية، حيث تقدر المخابرات المركزية «سي آي أيه» حجم التنظيم في الوقت الحالي بنحو 20 إلى 30 ألف مقاتل. في حين يعلن مسؤولو وزارة الدفاع «البنتاغون» أن الغارات أسفرت عن مصرع ما بين 25 إلى 30 ألفاً من مقاتلي التنظيم. وهذا يعني أنه لم يتبق من مقاتلي «داعش» في أفضل الحالات سوى خمسة آلاف رجل. أي تمت تصفية التنظيم تقريباً، وهذا ما لم يحدث.


وقد سخر كثيرون من هذا التضارب الواضح في بيانات الجهات الرسمية، لأن حساباتها تفيد بأنه بعد طرح 25 ألفاً (أي القتلى وفقاً للبنتاغون) من 30 ألفاً (عدد المقاتلين الحالي وفقاً للمخابرات) فإن الناتج يظل 30 ألفاً وهو التقدير الحالي لحجم التنظيم!
لا يعنى هذا أن كل ما تقوله واشنطن غير صحيح فهناك من يتحرى الدقة مثل «بين رودس» نائب مستشار الأمن القومي الذي أعلن قبل أيام أن عام 2016 وهو الأخير في رئاسة أوباما، لن يشهد نهاية «داعش». هذه هي الحقيقة المؤكدة التي لا يجب تجاهلها أو إنكارها. لم تنتصر أمريكا على «داعش» ولن تنتصر عليه على الأقل في وجود أوباما.