عبدالله بن بجاد العتيبي

السياسة ليست ربحًا دائمًا ولا خسارة دائمةً، بل هي في تراوحٍ مستمرٍ، تكسب في مكانٍ لتخسر في زمان مختلفٍ، وتنحاز إلى الشعوب ولا تخسر الدول، وتعزز الدول لكسب الشعوب، وهي كما تعمل على أعلى المستويات تتحرك في أدناها، والأعلى والأدنى ليس حكمًا معياريًا، بل توصيفٌ للواقع.


في لبنان، أعلن قائد تيار المستقبل و«14 آذار» سعد الحريري ترشيح زعيم المردة سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية، بينما أعلن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع ترشيحه الجنرال ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وهما شخصيتان مسيحيتان محسوبتان على محور إيران، لكن الأسوأ في المشهد اللبناني هو الفراغ الرئاسي، وقد أصبح على لبنان أن يهتم بمشكلاته الداخلية، وأن يفرز فرقاء السياسة أمام أتباعهم وحلفائهم، وقد صمت حزب الله صمت القبور أمام هذه التغيرات السياسية المهمة، لأن خياراته أصبحت بين السيئ والأسوأ.


في سوريا، نجحت الرياض في تشكيل وفدٍ معتبرٍ للمعارضة السورية بعد فشل إيران بكل ميليشياتها من حزب الله اللبناني إلى كتائب الفضل بن العباس العراقية إلى المرتزقة الطائفيين الذين استجلبتهم من باكستان وأفغانستان، في تثبيت قوة النظام، واضطرت إلى اللجوء إلى روسيا وتصعيد الصراع الإقليمي إلى المستوى الدولي.


في العراق، الخارج من ديكتاتورية عادلة في توزيع الظلم إلى ديكتاتورية طائفية، لغتها الدم في السياسة كما في الميليشيات، وهي اليوم تحكم من إيران، التي تغذي الطائفية وتزيد من صناعة الميليشيات، وتتلاعب بتوحيدها وتفريقها، مع طبقةٍ سياسيةٍ عاجزةٍ بشتى أصنافها عن حماية السيادة أو حفظ مصالح الشعب.


في اليمن، إيران تخسر واليمن يكسب، والتحالف العربي حرّر الغالبية العظمى من أرض اليمن، وعادت الشرعية السياسية إلى الداخل اليمني، ومن قبل في البحرين وفي مصر، وحيثما التفت المتابع يجد أن المحور العربي المعتدل يكسب وإيران تخسر.


وعودةً إلى الملف السوري، فأي مفاوضاتٍ تسعى لاستبعاد المعارضة السورية لا يمكن أن يكتب لها النجاح بأي مقياس أو معيارٍ، ولو غابت المعارضة لأصبحت مفاوضاتٍ بلا تفاوض واجتماعاتٍ بلا طائل، وقد كان السيد رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للتفاوض لتمثيل المعارضة في «جنيف3»، صادقًا وصريحًا في حواره في برنامج «بانوراما» على قناة «العربية» في تحديد المشكلة، وأن الذهاب إلى جنيف دون التزام بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ودون اتفاق على مرجعية «جنيف1» لن يكون به أي فائدةٍ تذكر.


إن الاجتماع لمجرد الاجتماع ليس هدفًا، وإن أصرّ عليه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، ولا يمكن أن يُعقد تفاوضٌ «بمَن حضر» كما قال، فالممثل الحقيقي للشعب السوري هو المعارضة التي تشكلت في الرياض، التي يرأس هيئتها العليا السيد حجاب، ولكن أين تكمن المشكلة اليوم؟
العالم أجمع يعلم أن الذي يقتل الشعب السوري هو شخص واحدٌ اسمه بشار الأسد، وحين عجز عن القتل أنجدته إيران بحرسها الثوري وضباطها وجنودها وميليشياتها، وحين عجزت هي الأخرى، جاء التدخل الروسي، فانتقل الصراع من إقليمي إلى دوليٍ، هذا معلومٌ، لكن المشكلة الحقيقية اليوم تكمن في عجز مجلس الأمن والأمم المتحدة عن فرض حلٍ للأزمة، وفي ظل تخاذل الدول الكبرى في مجلس الأمن وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية أصبحت روسيا شبه وحيدة في فرض ما يخدم مصالحها وإنْ على حساب الشعب السوري، وليس على حساب الشعب السوري فحسب، بل عبر المشاركة المباشرة في القتل والتدمير.
كان بإمكان التدخل الروسي أن يجد فرصةً للنجاح، وأن يسجل موقفًا تاريخيًا للدبلوماسية الروسية ويوسع من نفوذها وتأثيرها حول العالم لو استطاعت بناء توافقٍ سوري يضمن حقوق الشعب السوري وينهي حكم بشار الأسد، لكنها اختارت الطريق الأصعب، وتريد أن تفرضه على الجميع.
الشعب السوري بقلة الحيلة أصبح ينقل مصيبته معه حول العالم وتحديدًا باتجاه أوروبا، فأزمة اللاجئين السوريين تشغل الحكومات والبرلمانات والمجتمعات الأوروبية نخبًا وشعوبًا، ومآسي الغرقى المتناثرين على شواطئ أوروبا تشكل أزمة للضمير الأوروبي وثقافته وحضارته، ودون حلٍ سياسي جريء ومبادرةٍ فاعلةٍ ستظل الأزمة السورية مثل كرة الثلج تكبر وتتوسع ويتزايد تأثيرها وتنتشر ظلالها الكئيبة.


ثمة أغلبية صامتةٌ في الشعوب العربية والإسلامية، أغلبية لم تجد طريقها إلى التعبير عن غضبها ورفضها واستيائها من الأوضاع القائمة، ومن القادة السياسيين ومن الأحزاب والتكتلات، هؤلاء سيرفعون صوتهم عاليًا حين يجدون الفرصة، وحين ينبثق في قلوبهم وعقولهم الأمل، وبخاصة تجاه التدخلات الإيرانية في الدول العربية، وهي أغلبية يمكن ببعض الإجراءات والقرارات والتوجهات السياسية منحها فرصة رفع صوتها، والتعبير عن موقفها، وهي بالغة التأثير حين تتحرك، وقد ظهر تأثيرها في البحرين وفي مصر وفي اليمن وفي سوريا، وهي ستكون مهمةً حين تعلن عن نفسها في العراق وفي لبنان.


إن خلق مساراتٍ جديدةٍ للتاريخ ليعبر عن نفسه، وللشعوب لتعبر عن حنقها، مهمةٌ ليست سهلةً، لكنها ليست مستحيلة، إنها تحتاج فقط إلى رؤيةٍ ووعيٍ، وتخطيطٍ وشمول، ثم تنفيذٍ وفعلٍ، فكثير من الأوراق متناثرةٌ، وتحتاج فقط إلى من يجمعها ويوحدها ويدفع بها للمقدمة، وحينها سيتغير كثير من المشاهد المعاصرة.


الهرولة المتبادلة اليوم بين الثورة الإسلامية والشيطان الأكبر، أو بين إيران وأميركا والدول الأوروبية هي أقرب ما تكون إلى العبث، والاتفاق النووي بين الجهتين لا يمكن أن يختزل المشكلات الكبرى مع إيران، وعلى رأسها ملف الإرهاب والطائفية، وكون إيران دولةً مارقةً لا تعترف ولا تحترم القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية.


في زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لأوروبا حجّبت إيطاليا تماثيلها، وغطّت حضارتها، وهو أمرٌ لا تستطيع الاستمرار فيه، لأنها ستنسلخ حينها من هويتها، ولن تستطيع إيران أن تتنازل بالمقابل عن ثوريتها وإسلامويتها وإرهابها، ولذلك فإن المشهد الأبلغ تعبيرًا كان في باريس، حيث اكتظت الشوارع بالمتظاهرين الإيرانيين والفرنسيين الرافضين للانفتاح على طهران.


إن التشبّث بأهداب إمبراطورية الفرس، ونشر الميليشيات، ورعاية الإرهاب، وأكثر من مائتي ألف مقاتل في الدول العربية، وبث الطائفية، كما هي سياسات إيران المعلنة لا يمكن أن تستمر أو تتوافق مع العالم، والاتفاق النووي سيكون في مهب رياحٍ أعتى في المستقبل القريب.


أخيرًا، فإن الاتفاق الضيق لا يمكن أن يلغي الخلاف الواسع، والتركيز على مسألةٍ واحدةٍ محصورةٍ يجعل من غيرها من المسائل قنابل موقوتة تكون برسم الانتظار حتى يأتي زمانها وظرفها.

&