&كمال الذيب


كتبنا أكثر من مرة، وفي حدود الضوابط المرعية، حول الحاجة الى استعادة الاستقرار والتوافق الوطني بلغة أحسبها موضوعية، ومع ذلك نتلقى باستمرار اللوم العنيف من بعض الذين لهم تقييم مختلف للأمور-وهو امر مشروع- ولكن المشكلة أنهم لا يعترفون بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبت، ويعمدون بدلاً من ذلك إلى خلط الأوراق عمدا، وتقديم النتائج عن ويكتفون بصب جام غضبهم على السلطة محملين إياها تلك النتائج التي كانوا هم وراء أسبابها الدراماتيكية، ومن هذا الموقع يصرون على الادعاء بان هذه الكتابات «تتجاهل عمدًا مسؤولية السلطة، في حين تركز على إبراز أخطاء وخطايا المعارضة دون التعرض لأخطاء السلطة» (هكذا)، ولذلك يعتبرون الكتابات التي تنتقدهم في مجملها غير موضوعية غير متوازنة بل منحازة ضدها.
والحقيقة اننا لا نبالغ حين نقول إن الجهة الوحيدة التي يمكن انتقادها بحرية وبقسوة في وسائل الإعلام هي الحكومة التي تتعرض للنقد والانتقاد وتتقبله بقدر كبير من الصبرة والاناة، ولكن من يستطيع انتقاد المعارضة ورموزها المقدسة التي ترتدي عباءة الدين وتتكلم باسمه؟ ففي اغلب الأحيان فإن من ينتقدها -حتى بلغة موضوعية ومؤدبة- لا يصنف في الغالب الاعم الا كعميل أو مرتزق لئيم على حد تعبيراتهم المتكررة.
إن الكتابة المفيدة كما أراها هي تلك التي تكون منحازة إلى البلد وإلى مصلحة الناس الذين يعانون من الضغط المتواصل ومن الفوضى وقطع الطرق، ومن المعارضة التي أصبحت عداوتها للسلطة متطابقة مع عداوة مماثلة للتوافق الوطني الذي لا يمكن الخروج من الأزمة إلا به ومن خلاله. ومع ذلك من الطبيعي أن نكون مع من يعلن عن الإصلاح وتمسكه بالنهج الديمقراطي، ومع من يتولى تعزيز هذا التمشي رغم التحدي اليومي الذي يواجهه ويعمل على زعزعته بالتهم أحيانا، وبالعنف أحيانا أخرى وبإشاعة الفوضى. ولذلك عندما تتخذ السلطة الخطوات التي تراها ضرورية مهما كانت بعضها مؤلما لمعالجة بعض أهم نتائج الأزمة التي تم افتعالها في الأصل وتصعيدها بتنسيق تام مع الضغوط الخارجية، يجب ربطها بالأسباب التي أدت اليها، وليس من الانصاف ولا العدالة الحديث عن النتائج دون الحديث عن المتسببين فيما وصلنا اليه. ومن الطبيعي أن نكون مع من حرص على تقصي الحقائق وإغلاق ملفات كبيرة واتخذ من الإجراءات ما أشاد به العالم إلا الذين لا يرون ولا يسمعون ولا يتكلمون إلا بما في نفوسهم المغلقة بالكراهية. ومن الطبيعي أن نكون مع من دعا الى حوار التوافق الوطني وفتح أبوابه على مصراعيها دون قيد ولا شرط إلا تحقيق التوافق لإنقاذ البلاد من الفوضى والاحتراق. ومن الطبيعي أن ننتقد الذين لا يعترفون بأخطائهم ولا يعتذرون عن خطاياهم ولا عما سببوه للمجتمع من أذى وأوجاع وألام وهزات حتى بالنسبة الى اتباعهم، غرورا وتعاليا، ومن الطبيعي أن نعترض أيضا على الذين جروا البلاد إلى الفتنة ووضعوها يوميا على مدار خمس سنوات على الأقل إلى حافة بركان، دون ان يكون هنالك مبرر جدي وموضوعي يستدعي مثل هذه المغامرة الفجة، التي قامت على ابتزازا السلطة واختطاف المجتمع، ومن الطبيعي أن نعترض على التحريض على الكراهية والتمييز بين مكونات المجتمع.
يهمنا إذن قبل الشكوى من النتائج ان نعترف بالأسباب والأفعال المذمومة التي أضرت بالبلد وبالناس اجمعين، ونشر ثقافة التحقير والازدراء التي تحولت إلى قاموس راسخ في خطاب بعض المحسوبين على المعارضة وتدني مستوى التخاطب السياسي والإعلامي.
بعض الذين ينتقدون بعض ما نكتب في هذا المجال بهذه اللغة يقولون بكل بساطة: إذا كان يهمكم الحل فهو بسيط، وهو ان تأخذ السلطة بالخيار السياسي واتخاذ خطوات جادة نحو الانفتاح واستعادة الحوار الوطني مجددًا.
والحقيقة أننا -وإن كنا مع الحل السياسي ومع التوافق والحوار ومع أي مبادرات سياسية وطنية بعيدًا عن الضغوط الخارجية- فمن الواضح انه لا توجد أي مبادرات جادة من جانب اغلب من ينتمون للمعارضة نحو تجاوز العقد السابقة التي أدت الى الازمة، وخاصة طريقتها في معالجة وإدارة الأزمة والانزال وراء تقسيم المجتمع وإدخال البلاد على خط التدخلات الخارجية.
إن الاستمرار في استخدام ذات اللغة واتخاذ ذات المواقف الاستعراضية مخالف لفعل العقل السياسي المتزن الذي يمكن أن يساعد على التقدم بالبلاد نحو العودة الى الحوار الوطني مجددا، ولكن أي حوار لا يمكن ان يحقق أهدافه- إضافة الى إجراءات تهدئة متوازنة- وضع حد للادعاء الديمقراطي المزيف ضمن تركيبة سياسية طائفية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بمدنية الدولة، باعتبارها المفتاح والضمان لفصل الدين عن السياسة، ولن نخرج بنتيجة حاسمة إذا استمر الركون الى المرجعيات الدينية الطائفية المعادية للديمقراطية، فعلا وقولا، والمقدمة على جميع المرجعيات الدستورية والقانونية والعقدية، بما يتطلب إعادة بناء للجمعيات السياسية على أسس مدنية وطنية وتفكيك منظومة الهيمنة الطائفية على الحياة السياسية لتأثيرها بشكل خطير ليس على الولاء الوطني فحسب، بل على هوية البلد وانتمائه العربي.. وإذن فالمسألة ابعد من مجرد إجراءات مطلوبة من هنا وهناك، فأي حوار جاد وحقيقي يجب ان يبدأ فكريا ضمن مراجعات بعيدة عن المصالح الحزبية الضيقة، واعتقد ان القوى المستنيرة قادرة على بلورة مثل هذه الخلاصة التي تكون قوة اقتراح للخروج من الولاءات الطائفية.