إياد أبو شقرا
أعترف بأنني أخطأت في توقع نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية. أقرّ، بلا تردد، بأنني رغم متابعتي الشأنَ الأميركي لعقود، وعيشي في ظل «الديمقراطية الغربية» منذ 1978، أوهمت نفسي بأن الطبيعة البشرية قادرة على الخروج من شرنقة الأنانية والجشع وكره الآخرين.. إذا ما أتيحت لها فرصة التعبير عن نفسها بحرية.
ربما كان عليَّ التنبه لما حصل في بريطانيا، بالذات، عندما صوّت ناخبوها لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي - أو ما حمل اسم «بريكزيت»، وتذكر حقيقتين: الأولى، أن الناخب الأميركي ليس بالضرورة أكثر تسامحًا أو نضجًا من الناخب البريطاني. والثانية، أن نسبة عالية من أصوات مؤيدي الـ«بريكزيت» في بريطانيا جاءت من المهاجرين، بل حتى مَن كانوا لسنوات قليلة خلت من اللاجئين؛ هؤلاء الذين استفادوا من التسامح البريطاني بقبولهم على الأرض البريطانية، لكنهم اختاروا لأسباب أنانية بحتة إغلاق الباب بوجه آخرين هم اليوم في مثل ظروفهم بالأمس!
أيضًا كان عليَّ أن أكون أكثرَ واقعيةً إزاء تعايش الأميركيين مع ثماني سنوات من حكم أول رئيس من أصل أفريقي، دأب اليمين الأميركي المتطرف على التشكيك في «أميركيته»، ناهيك عن التشكيك في «مسيحيته». وأمام خلفية الاستطلاعات التي ظلت تخبرنا حتى مطلع الشهر الحالي بأن باراك أوباما يتمتع بشعبية عالية بالنسبة لرئيس في نهاية فترته الرئاسية الثانية، تتراوح بين 53 في المائة و55 في المائة، أسأت - كما أساء كثرة من المحللين الأميركيين الجادين - قراءة عمق نفور السكان البيض في الأرياف، وكذلك أنصاف المتعلمين، من «الاختراق الأسود» لمؤسسة السلطة، وشدة كراهية اليمين المسيحي - الإنجيلي البروتستانتي والمحافظ – الكاثوليكي، لليبراليي الحزب الديمقراطي.
لقد كانت هذه الانتخابات فرصة للانتقام من عدة أعداء دفعة واحدة:
- الانتقام الأول كان من «المؤسسة» السياسية في واشنطن، بدليل تغلب رجل من خارج الطبقة السياسية، مثل دونالد ترامب، على قيادات بارزة للظفر بترشيح الحزب الجمهوري. وحصول السيناتور اليساري بيرني ساندرز الذي لم يكن أصلاً عضوًا في الحزب الديمقراطي، على نحو 40 في المائة من أصوات الديمقراطيين في المعارك التمهيدية لترشيح الحزب.
- الانتقام الثاني كان انتقامًا استباقيًا للعنصرية البيضاء من «حالة سياسية طارئة» تهدّد بفعل التغيرات الديمغرافية في الولايات المتحدة بأن تغدو «حالة دائمة». فعلى سبيل المثال، تشير الإحصائيات إلى أن البيض المتحدرين من أصول أوروبية سيصبحون أقلية (مقابل المتحدرين من أصول هسبانيكية - أو أميركية لاتينية – وأفريقية وآسيوية) في الفئة العمرية دون سن الخامسة والعشرين بحلول 2020، أي بنهاية فترة ترامب الرئاسية الأولى.
وهذا طبعًا بالإضافة إلى واقع أن أكبر ثلاث ولايات أميركية، من حيث السكان اليوم، ذات غالبيات «أقلياتية»، هي كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا. ولذا كان لافتًا تكرار ترامب وغيره من أصوات اليمين المتطرف التركيز على «ضرورة إنقاذ أميركا قبل فوات الأوان». وحقًا، فعلت هذه الاستراتيجية فعلها، وهي تنذر الآن بأن تكون لها آثار وخيمة ليس فقط على التعايش بين الأعراق في أميركا، بل أيضًا على مبدأ «الفصل بين السلطات» الذي هو الضامن الأساسي للنظام الديمقراطي الأميركي. ذلك أن الحزب الجمهوري، المنجرف أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرف، لم يفز فقط بانتخابات الرئاسة (مقر السلطة التنفيذية)، بل احتفظ أيضًا بسيطرته على مجلسي الكونغرس (السلطة التشريعية)، وهو ما يتيح له التحكم بتعيين قضاة مسيّسين موالين له في المحكمة العليا (السلطة القضائية).
- الانتقام الثالث كان من العولمة، وذلك بالتحصّن وراء أسوار العنصرية الفاقعة التي عبّر عنها عدد من المرشحين الجمهوريين قبل أن يكسب سباقهم ترامب، المرشح الأكثر صراحة في عنصريته وانعزاليته، وهو الذي تعهد بمنع دخول المسلمين وبناء جدار يفصل بلاده عن المكسيك. وحتى المرشح المتحدّر من أصول أفريقية، بن كارسون، كان خطابه عنصريًا ومتعصبًا - بالذات ضد المسلمين - مما يعني أن هؤلاء كانوا يعرفون طبيعة الناخب الذي يدغدغون أحط غرائز الكره والاستعلاء فيه، ويؤجّجون مشاعر الخوف واليأس لديه، سعيًا لكسب صوته.
- الانتقام الرابع كان من التقدم التكنولوجي والعلمي المتصل حُكمًا بالعولمة، إذ كان لافتًا تشابه الخطابين الشعبويين، اليساري عند بيرني ساندرز واليميني عند دونالد ترامب وبعض الجمهوريين، في موضوع معاناة الطبقة العاملة الأميركية، من سقوط الحواجز أمام حركة السوق والوظائف والبضائع. وفعلاً كسب ترامب نسبة لا بأس بها من أصوات العمال اليدويين غير المتعلمين في ولايات الشمال الصناعية التي تراجعت قاعدة صناعاتها التقليدية حتى استحقت لقب «ولايات حزام الصدأ». والحقيقة أن ترامب ربح الانتخابات بكسبه ثلاث ولايات شمالية كان من المفترض أن تذهب أصواتها لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، هي بنسلفانيا وميتشيغان وويسكونسن، بجانب أوهايو.
إن الحركة الشعبية التي تنشط اليوم في المدن الأميركية، بعد صدمة فوز ترامب، أفقدتها هذه الصدمة براءتها وإيمانها بمستقبل متسامح في بلد انقلب خلال الأيام الماضية على تاريخه وأُسس وجوده.
لقد قامت أميركا «الآباء المؤسسين» في الأساس كملاذ للمهاجرين، وتوسّعت مبشّرة بالانفتاح والتعدّدية وقبول الآخر، بصرف النظر عن اللون والعرق والدين، فإذا بها اليوم تصوّت لبناء جدران الفصل ومنع دخول مهاجرين بناء على هويتهم الدينية. وقامت على المبادرة الفردية والاقتصاد الحر وفتح الأسواق، ووقفت ضد الحماية والقيود، وسنّت تشريعات ضد الاحتكارات، فإذا بها اليوم تتآمر على مصير شركاتها الصناعية التي أجبرتها المنافسة في حلبة النظام الرأسمالي الذي خاضت أميركا الحرب الباردة لضمان انتصاره، على تقليص نفقات الإنتاج ببناء مصانع لها في الخارج.
وقامت على التقدم العلمي وتشجيع الاختراعات والابتكارات، واحتضان العلماء من عباقرة العالم، وها هي اليوم تستجدي أصوات رافضي التقدّم، بل وتعطل الأبحاث العلمية تحت وطأة ضغوط اليمين المسيحي الرجعي، سواء في مجال الخلايا الجذعية أو العقل الاصطناعي أو التقنيات النانوية والمعلوماتية المتطورة.
ها هي أميركا ترامب في القرن الـ21.. وعلينا دفع الثمن مع أننا لم نصوّت له!
التعليقات