راجح الخوري
الغيوم الداكنة في الفضاء الأطلسي لم تظهر مع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وعلى خلفية ما كرره في حملته الانتخابية من أن على حلفاء أميركا الأوروبيين، أن يدفعوا أكثر في «حلف الأطلسي»، الذي تتكفل أميركا بثلثي ميزانيته.
باراك أوباما الذي حرص يوم الثلاثاء على طمأنة الأوروبيين بأن ترامب لن يخرج عن التزامات أميركا حيال تحالفاتها الاستراتيجية، كان قد سبق ترامب في دعوة الشركاء الأوروبيين إلى زيادة مساهمتهم في نفقات الحلف، وقد برزت دعوته هذه على خلفية شكوى البريطانيين والفرنسيين من نقص في قذائف الطيران، الذي كان ينفذ قرار مجلس الأمن بضرب الآلة العسكرية لنظام القذافي، مما استدعى يومها الاعتماد على مخزون القواعد الأميركية في ألمانيا.
منذ ذلك الحين برزت في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا، اتجاهات متصاعدة لم تكن تلقى تأييدًا في زمن المواجهة الباردة بين حلفي «الأطلسي» الذي تقوده واشنطن، و«وارسو» الذي كانت تقوده موسكو، وهي السعي إلى إرساء تحالف دفاعي وأمني يشكّل قاعدة لنوع من الاستقلالية الاستراتيجية، ويمكن أن يشكّل «شينغن أمنيًا»، لكن شرط ألا يتناقض ذلك مع الحرص على الحلف الأطلسي كجدار استراتيجي تقوده الولايات المتحدة.
بداية الأسبوع وافق وزراء خارجية ودفاع دول الاتحاد الأوروبي الـ28 بعد اجتماعات ماراثونية في بروكسل، على خطة دفاعية قد تؤدي إلى أن يقوم الاتحاد بإرسال قوات للرد السريع إلى الخارج للمرة الأولى، في معزل عن الإطار الأطلسي، ومن المعروف أن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد فيديريكا موغيريني كانت تعمل من شهور سبقت الانتخابات الأميركية، على صياغة خطة الدفاع الجديدة، مستندة إلى مُقتَرحين تفصيليين قدمتهما فرنسا وألمانيا، لكنها حرصت بعد محادثات بروكسل على القول إن الخطة الدفاعية الجديدة لا تعني قيام جيش أوروبي، ولا تشكّل منافسة مع مهمات «الناتو» أو تكرارًا له.
ليس من الواضح على أي أساس قانوني وسياسي يمكن أن تستند الخطة الدفاعية الأوروبية، عندما يقال إنها ستسمح مثلاً للاتحاد بإرسال قوات للتدخل والسيطرة على أزمة ما، قبل أن يتسنى لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تولي هذه المهمة، ثم كيف سيتم التنسيق مع «الناتو» إذا كانت الخطة تعزز بصورة أوسع استعداد الأوروبيين للتحرك في معزل عن أميركا!
بريطانيا التي تقف على بوابة الخروج من الاتحاد طبقًا لنتائج «البريكست»، ليس لديها أي حماسة لهذه الخطة التي يدعمها جيران روسيا بقوة، خصوصًا في ظل اندفاعات فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وبعد تصريحات ترامب المثيرة للقلق الأوروبي، ولهذا لم يكن مفاجئًا أن يعلن وزير الدفاع البريطاني مايكل فانون: «بدلاً من التخطيط لإنشاء مركز قيادة رئيسي جديد باهظ التكاليف أو الحلم بجيش أوروبي، ما ينبغي على الاتحاد الأوروبي عمله هو إنفاق المزيد من الأموال على دفاعه الخاص، وهذا أفضل نهج ممكن لمواجهة رئاسة ترامب»!
لكن الحماسة الفرنسية والألمانية للخطة لا تربط الأمور بالوضع في الولايات المتحدة، التي كالت الانتقاد للحلفاء الأوروبيين على لسان أوباما، وها هي توجه التهديد برفع الحماية عنهم ما لم يدفعوا، على لسان ترامب، لهذا يرد وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان بالقول: «ينبغي لأوروبا أن تكون قادرة على التحرك لحماية نفسها، ومن الضروري أن يفرض الاستقلال الاستراتيجي نفسه أيًا كان الرؤساء في الولايات المتحدة»!
في أي حال ليس خافيًا أن دونالد ترامب في تصريحاته خلال الحملة الانتخابية ثم بعد فوزه، أشعل النار تحت أرجل الحلفاء الأطلسيين، الذين كانوا يدرسون في بطء، الاتجاه إلى إرساء ما يمكن وصفه بأنه «شينغن دفاعي» يوحّد المبادرة الأمنية الأوروبية، ومن الواضح أن امتزاج إشارة ترامب إلى إمكان رفع الحماية الأميركية في مفهومها الأطلسي، بالغزل الذي وجهه مرارًا إلى بوتين الذي تحاصره عقوبات أوروبية، هو الذي أدى إلى إقرار الخطة الدفاعية الأوروبية.
والواقع أن ترامب كرر دائمًا أن على حلفاء أميركا في الحلف الأطلسي دفع المزيد من الأموال، لأن واشنطن تتحمل ثلثي موازنة الحلف، ثم إنه لم يتردد في مغازلة بوتين الذي وصفه بـ«الزعيم القوي والأقوى من زعامة رئيسنا»، ملمحًا إلى أنه يمكن أن يعترف بضم روسيا القرم، هذا في حين كان بوتين يرد على الغزل بأحسن منه حيال «ترامب الرجل اللامع والموهوب والمستعد لاستعادة العلاقات الروسية - الأميركية بالكامل»، وفي وقت لم تتوانَ حملة هيلاري كلينتون عن تصوير ترامب بأنه مرشّح موسكو للرئاسة الأميركية.
مما زاد من الحمى الأوروبية أنه عندما كان وزراء الاتحاد مجتمعين في بروكسل كان ترامب على الهاتف مع بوتين في اتصال ركّز على ضرورة العمل المشترك لتطبيع العلاقات بين البلدين، وأعلن فريق ترامب أنهما ناقشا مجموعة واسعة من القضايا بما في ذلك التهديدات والتحديات التي تواجه البلدين والقضايا الاقتصادية الاستراتيجية و«العلاقات التاريخية بين أميركا وروسيا»!
وهكذا يصبح مفهومًا لماذا حذّرت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين، ترامب، من التقارب أكثر مما ينبغي من بوتين، وأن عليه أن يحدد بوضوح في أي جانب يقف، هل في جانب القانون والسلام والديمقراطية، أم أنه لا يعبأ بكل ذلك ويتطلع إلى بوتين كصديق وثيق؟! ثم جاءت رسالتها الأوضح متعلّقة بحلف الأطلسي: «إن على ترامب أن يفهم أن التحالف يقوم على القيم المشتركة، وهو ليس مشروعًا تجاريًا وليس شركة.. لا يمكنك أن تقول إن الماضي لا يهم، وإن القيم المشتركة غير مهمة، وتحاول بدلاً من ذلك أن تكسب أموالاً من الحلف بقدر ما تستطيع»!
رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر يبدو أكثر استياءً عندما يقول إن ترامب جاهل بالاتحاد الأوروبي وطرق عمله، وإن انتخابه ينطوي على خطر قد يزعزع العلاقات بين القارتين من أساسها وفي هيكلها، محذرًا من العواقب الوخيمة لتصريحاته بشأن السياسة الأمنية، ومذكّرًا بتصريح سابق أدلى به ترامب، وبدا فيه أنه يعتقد أن بلجيكا التي تضم مقرَّي الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي هي مدينة وليست دولة.. «فنحن نحتاج إلى عامين لنعلّم الرئيس الجديد ما هي أوروبا وكيف تعمل»!
حين يبدو أن زلزال ترامب يمكن أن يصدّع التحالف التاريخي الأطلسي بين أميركا والدول الأوروبية، حرص أوباما الذي زار اليونان وألمانيا على تذكير ترامب بأن «أوروبا أكبر شريك اقتصادي لنا، وأن التكامل مع الأوروبيين هو أحد أهم الإنجازات السياسية والاقتصادية في العصر الحديث التي يستفيد منها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والعالم أجمع».
لكن الجواب يبقى معلقًا على ما سيفعله ترامب الرئيس المسؤول، بعد فوضى ترامب المرشح الاستعراضي.
التعليقات