إياد أبو شقرا

انتشرت شائعات خلال الأيام القليلة الماضية عن محاولات موسكو التأثير في الانتخابات الألمانية المقبلة. كذلك بشّرتنا مارين لوبن زعيمة «الجبهة الوطنية» الفرنسية المتطرفة المُعادية للمسلمين والمهاجرين، بأن انتصار دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية - الآتي بعد انتصار دعاة انسحاب بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي - يعني أن مسيرة أمثالها تسير في الاتجاه الصحيح. وبالفعل، خرج علينا برنار هنري ليفي «فيلسوف الربيع العربي»، ليقول إن احتمال فوز لوبن برئاسة فرنسا بات احتمالاً واردًا في ضوء المتغيرات الأخيرة أوروبيًا وعالميًا.
فلاديمير بوتين، بخلاف بعض أدعياء «اليسار» و«النضال الثوري» في عالمنا العربي، زعيم قومي يميني لا علاقة له بتركة الاتحاد السوفياتي سوى في شقين، هما: «دولة الـ(كي جي بي) الأمنية»، وطموحات موسكو الدولية، التي انتقلت إلى القيادات البلشفية من عصر القياصرة، ويومذاك بدلاً من الأطماع القيصرية الإمبريالية غدا المسوّغ «الشرعي» الجاهز للبلاشفة تصدير ثورة البروليتاريا وتحرير الشعوب من نير الاستعمار الغربي.
بوتين اليوم، عمليًا: «قيصر» موديل 2016!
«قيصر» تلقى تدريبه في مؤسسة الـ«كي جي بي» السوفياتية سابقًا، وخطى خطواته الأولى في مسرح العمليات الدولية على أرض ألمانيا التي يجيد لغتها ويعرفها جيدًا. ومثل ملايين من أبناء جيله يفهم أن ألمانيا هي مصدر الخطر الوجودي القديم على روسيا من جهة الغرب.
أيضًا، يفهم بوتين أن ألمانيا هي قلب أوروبا، وكبرى دولها والحاضنة الأقوى لفكرة وحدتها. ومن ثم، فإن إرباكه ألمانيا من الداخل، بعد نجاحه في إرباك الولايات المتحدة بدعمه غير المتحفّظ حملة دونالد ترامب، سيعزّز مشروع «الهروب إلى الأمام» وتصدير الأزمات إلى الخارج الذي تنفّذه روسيا فرارًا من حدة أزماتها الاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية.
لكن اللافت، اليوم، أن جهود بوتين الإرباكية – التفجيرية لا تتوقف عند أميركا وألمانيا، بل تتمدد أبعد داخل أوروبا، لتشمل فرنسا التي بدأت هي الأخرى العد التنازلي لانتخاباتها المقبلة خلال بضعة أشهر. أما بالنسبة إلى العالم الإسلامي فلا حاجة لشرح طويل، بما أن ما تشهده سوريا بفعل التدخل الروسي المباشر بمباركة أميركية أوضح من الشمس. فموسكو اليوم شريك كامل لواشنطن أوباما – والأرجح، أكثر لواشنطن ترامب – في الحرب على الإسلام السياسي السنّي.
ومن ثم، فإن نهج بوتين القائم على إنهاك وابتزاز الديمقراطيات الغربية عبر دعم قواها السياسية المتطرفة والعنصرية، وربط علاقات موسكو بعواصمها بـ«اتفاقيات أمنية» ضد عدو مشترك هو الإسلام، وبالذات الإسلام السياسي السنّي، يحقّقان لموسكو عدة أهداف مترابطة دفعة واحدة:
الأول، إضعاف التوجّهات الليبرالية والديمقراطية والتقدمية في الدول الغربية لصالح قوى اليمين المتطرف العنصري، وهو ما سيهدد سلمها الأهلي وتعايش مكوّناتها، ويخيف جالياتها الوافدة ويستفز أقلياتها ويشجع النزعات الانفصالية بداخلها، على غرار دفع الاسكوتلنديين والقطالونيين إلى الاستقلال عن بريطانيا وإسبانيا.
والثاني، إسقاط مسألة حقوق الإنسان باعتباره سلاحًا سياسيًا يستخدمه الغرب ضد ممارسات الكرملين، سواء داخل روسيا أو في الكيانات الدائرة سابقًا في الفلك السوفياتي، من منطلق أن الجميع باتوا سواسية. إذ لا يحق لمَن يضطهد الأقليات والمهاجرين، ويمنع اللجوء، ويبني الأسوار، ويوقف الناس على الشبهة على أساس اللون والدين واللغة، أن يطالب غيره بسلوك مختلف.
والثالث، عطفًا على الهدفين السابقين، إطلاق يد موسكو في المناطق التي تزعم أن لها فيها حقوقًا موروثة أو مشروعة، أو مصالح استراتيجية. وهذا، ما يترجَم على الأرض فعليًا في الشرق العربي، وحوض البحر الأسود ومناطق القوقاز والبلقان، حيث فاز قبل أيام المرشحان المؤيدان لموسكو في الانتخابات الرئاسية في كل من بلغاريا ومولدوفا.
والرابع، جعل روسيا شريكًا أمنيًا وسياسيًا كاملاً في رسم الاستراتيجية الأوروبية – الأميركية المستقبلية في عالم تتغير ديموغرافيته وأولوياته السياسية بسرعة، لدرجة أن القوى الأوروبية المسيحية البيضاء (جرمانية كانت أم لاتينية أم سلافية) ما عادت ضامنة لهيمنتها على العالم. ومردّ ذلك إلى النمو الاقتصادي والسكاني والعلمي لمناطق العالم الأخرى، وعلى رأسها آسيا. وكذلك العودة غير المعلنة إلى «صدام الحضارات» مع الإسلام بالذات، كونه الهوية الدينية الكبيرة غير المسيحية في المناطق المتاخمة لأوروبا، ناهيك من حجم الوجود الإسلامي حتى داخل دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وروسيا أيضًا.
الأهداف الأربعة الآنفة الذكر، وربما غيرها أيضا، تشير إلى أن كل ما طُرح منذ سقوط «جدار برلين» عام 1989، وظهور ما اصطُلح على تسميته «النظام العالمي الجديد» تحت الزعامة الأحادية الأميركية، كان إما مُجتزأ أو سابقًا لأوانه.
ومع أن جماعات «المحتفِلين» بانتصار الليبرالية الغربية على الاشتراكية، ومتوقعي «صدام الحضارات» تعجّلوا تهنئة أنفسهم – قبل مبادرة بعضهم إلى تعديل مواقفه وإجراء نقد ذاتي مهذب – فالواضح أنه لفترة ما، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، قام «نظام عالمي جديد» إلا أنه ما كان مكتمل المزايا وواضح الأهداف. ولكن خلال أقل من عقدين من الزمن هزّت الغرب الرأسمالي «المنتصر» أزمته المالية والاقتصادية المكلفة عام 2008، ما كشف أنه إذا كانت الاشتراكية – بصيغتها السوفياتية – قد فشلت، فإن صحة الرأسمالية ليست على ما يرام، بل إنها تعاني من اختلالات بنيوية أساسية لا تكفي المُكابرات السياسية لإخفائها.
أكثر من هذا، بعد المُكابرات العقيمة، اضطرت الرأسمالية الأميركية والأوروبية في سعيها المحموم لإنقاذ «شرعية» طروحاتها، إلى التفتيش على كبش فداء تحمله مسؤولية هذه الاختلالات. وها هي كِباش الفداء قد حُدّدت بالجملة، على رأسها:
أولاً، العولمة، ولا سيما حرية انتقال الناس والخدمات والبضائع، وما يستتبع ذلك من إثارة للنزعات العنصرية ضد العمالة الوافدة القابلة بأجور السوق ومنطق العرض والطلب.
وثانيًا، الثورة التكنولوجية التي أخذت تقضي على كثير من الصناعات التقليدية، وتلغي الحاجة إلى مَن يشغل وظائف بات بالإمكان إما الاستغناء عنها كليًا، أو الاستعاضة فيها عن اليد العاملة بالكومبيوتر والروبوت والتطبيقات الذكية في مختلف القطاعات.
لهذا، وبهذا، يصح الكلام عن «اللانظام العالمي الجديد».