علي سعد الموسى
كنت، وقبل أسبوعين، برفقة صديق في قلب إحدى مدن الغرب الأميركي عندما ولدت بواكير هذه القصة: امرأة عربية مسلمة تدفع "عربية" طفلها في وسط هذا الزحام عندما قال لي صديقي: لو أنها أكملت حجاب رأسها الذي ترتديه بلباس احتشام بديل عن هذا الذي لا يناسب هذا الحجاب؟ أجبت صاحبي: ولماذا تنظر فقط إلى "نصف الجسد الفارغ" فذهبت بعينيك إلى اللباس دون أن تشكر لها جمال "الخمار" الذي تمسكت به في هذه البيئة المفتوحة؟ نحن، أخي، التقينا بها صدفة على بلاطة من شارع في أرض الله الواسعة الفسيحة، وكل ما نعرفه فيها لم يكن بأكثر من لقطة عين شاردة من ملايين دقائق الأيام. نحن نحكم على مظاهر الناس ونحن لا نعلم مثقال ذبابة عن محيطات حياتهم ولا عن بحار ظروفهم، ولا شيئاً عن أنهار وجداول مصائرهم وما استكرهوا عليه. تركناها ومشينا وهنا تبدأ ذروة القصة: وصلت مع صاحبي بعد ما يقرب الساعة لزيارة أحد أهم معالم المدينة السياحية لحظة كان يقترح فيها أن نصلي الظهر قبل أن نبدأ الجولة. نقاش قصير قبل أن يقتنع تماماً أننا في فسحة سفر تتيح لنا جمعاً متأخراً مع العصر، وأكثر من هذا، وللأمانة وصدق القول، كيف نصلي بين هؤلاء المئات من زوار هذا المعلم السياحي في خضم هذه "الفوبيا" التي جعلت من أهل الحق دائرة شبهة. والخلاصة، أننا دخلنا في طابور طويل يلتف كثعبان حلزوني في طريقنا لأعلى البرج. بعد ما يقرب من نصف ساعة ما زلنا في الطابور عندما ألجمتنا هذه اللقطة: نفس العربية المسلمة التي تجادلنا حول لباسها وحجابها قبل ما يقارب الساعة في الشارع البعيد هي نفسها من تسحب رداء صلاتها الساتر من درج "عربية" طفلها ثم تبدأ الصلاة في مساحة ضيقة بين المئات، وقد وضعت طفلها أمامها تحت هتن المطر الخفيف لتبدأ تراتيل الفريضة في منظر أخاذ وساحر. لم يكن لصاحبي ولي أيضاً من جواب إلا "طأطأة" الرؤوس وهو يقول لي: لم تترك لنا هذه المرأة المسلمة إلا ذنوب الانتقاد والغيبة، فأجبته فوراً: وفوق هذا أخذت من بين يدينا فضيلة الجهر بالحق حين فعلت هذه المرأة ما لم يستطع أن يفعله "رجلان" تحت خوار الخوف وجبن الهزيمة. نحن يا صاحبي "العرايا" الحقيقيون تحت ضغط النفاق بينما هي الآن الطاهرة المحجبة المتوجهة نحو القبلة.
مررت شخصياً قبل هذه القصة المدهشة بعشرات القصص ولكنها وحدها ستبقى درساً، ووحدها ما حييت. هي وحدها برهان على كذبة الانطباع التلقائي الذي نحكم به على البشر أو على الأفراد ثم نكتشف كم كنا صغاراً أمام كبريائهم، وكل فارق المكان في الصورتين ليس بأكثر من بلاطتين في شارعين متجاورين. كل فوارق الهزيمة في زمن ذلك الدرس لم تكن بأكثر من ساعتين. درس هائل في غلطة الحكم على الخلق لمجرد الظواهر والمظاهر أو حتى في السيمياء والشكل دون أن نعلم عن ظروف هؤلاء ولا عن منابت حياتهم ومساقط ظروفهم الشخصية الخاصة. سأختم: ما زلت أتذكر بكاء "آزاد" الكردي العراقي قبل ربع قرن حين استمع للأذان من "ميكرفون" مسجد مدينة أميركية سمحت قوانين مجلسها البلدي برفعه. كنا نعلم يومها أن "آزاد" قد تقطعت به سبل الحياة لتهوي به نادلاً في مطعم بتلك المدينة، وكان عليه أن يصب الخمور في كؤوس الزبائن كي يعيل زوجة وطفلين تركهم "صدام" للحروب وقطع عن الأسرة مخصصات البعثة. الفارق في قصته هو في الحكم عليه في لقطتين: أول من يدخل المسجد لأداء الفريضة أو وهو يعمل نادلاً في ذات المطعم!!!
التعليقات