هالة مصطفى&
إن أكثر الظواهر انتشارا فى عالمنا الاسلامى التى نعايشها بشكل شبه يومى هى ظاهرة الفتاوى الدينية, التى بات من الصعب إن لم يكن من المستحيل عدها أو حصرها, ومعها أصبح كل من يحملون ألقاب شيخ أو داعية أو مرجع يتصدرون الفضائيات ووسائل الاعلام المختلفة باعتبارهم «نجوم» المرحلة, يتحكمون فى مصائر الناس ويوجهونهم شمالا أو يمينا كيفما يحلو لهم من خلال فتاويهم, هم ببساطة يتحركون فى فضاء واسع دون رادع وفى غيبة من القانون أو الضوابط العامة التى تحكم أى دولة أو مجتمع. ولخطورة هذه الظاهرة ولأنها أيضا فى تزايد مستمر فقد وصفها مؤخرا الدكتور على جمعه وقد تولى دار الافتاء المصرية (2000-2013) فى البرنامج الشهير «والله أعلم» الذى يذاع على إحدى قنوات السى بى سى بأنها ظاهرة «مرضية» أى هى علامة على وهن تلك المجتمعات وليس صحتها أو تدينها, مقارنا بين عدد الفتاوى التى صدرت فى عهد الشيخ محمد عبده عندما كان مفتيا للديار(1899-1905) أى خلال ست سنوات وكانت 944 فتوى بمثيلاتها فى عهده عندما شغل نفس المنصب لمدة عشر سنوات والتى اقتربت من الـ3 ملايين فتوى, وهو أمر يفوق أى جهد بشرى مهما بلغت درجة الاجتهاد, لذا ناشد الناس بعدم الافراط فى اللجوء الى الفتاوى حتى تمضى الحياة الطبيعية.
&بعبارة أخرى, إن الظاهرة التى أتحدث عنها هنا تتجاوز فتاوى التكفير والتطرف التى تلجأ اليها التنظيمات الاسلامية المسلحة مثل داعش ومن قبله القاعدة, لتبرير الأعمال اللاانسانية واللاأخلاقية التى تقوم بها من قتل وذبح ورجم وحرق وسبى للنساء واستحلال أعراض وأموال وممتلكات الغير, مما اعتدنا مشاهدته صوتا وصورة كأفلام الرعب «الهوليوودية» مع فارق وحيد وهو أنها تعبرعن حقيقة مؤلمة وليست من خيال مُبدعى الخدع السينمائية. لكن هذا الجانب الفج للظاهرة على فظاعته كان من الممكن حصاره, لأنه فى النهاية مرتبط بتنظيمات بعينها, أما تشعبها وامتدادها لتشمل كل أوجه الحياة تقريبا فهو مما يصعب محاصرته والتصدى له, وهذا هو واقع الحال اليوم. فهناك فتاوى سياسية واقتصادية واجتماعية, تفتى فى شئون الأحزاب والبرلمان والانتخابات ووضع المرأة والأقليات وحقوق الانسان والحريات المدنية والعامة والبنوك والمعاملات المالية والبورصة, وفى الطب والتعليم والاختلاط بين الجنسين, وفى تحريم مهن معينة وإجازة أخرى, فتاوى فى كل شىء وأى شىء. وتقابلها أخرى تتعلق بالحياة الشخصية للأفراد تشمل كل صغيرة وكبيرة فى حياتهم, فكل خطوة تكون بفتوى تُراكم الخوف وتُعطل التفكير وتخلق حالة من التواكل فى أغلب الأحيان. ونوع ثالث من الفتاوى يندرج تحت قائمة الآراء الأكثر غرابة وشططا تتحدى أى منطق أو حس انسانى سليم وهى بالمناسبة الأكثر شهرة (مثل إرضاع الكبير, وشرب بول الإبل للاستشفاء, ونكاح الوداع للزوجة المتوفية, وزواج القاصرات وتحريم بعض الألعاب الرياضية كاليوجا لأنها من التقاليد الهندية الوثنية, أو مشاهدة الرسوم المتحركة, أوالمحادثات الالكترونية بين الجنسين, وكذلك عدم تهنئة المسيحيين فى أعيادهم, والدعوة لهدم الآثار الفرعونية خاصة التماثيل لعدها أصناما) وغيرها بالعشرات من النماذج المماثلة, التى لا جدوى منها سوى تشويه صورة الاسلام والمسلمين ووضعهم خارج السياق الزمنى المعاصر بل وخارج التاريخ والحضارة عموما, ناهيك عن فتاوى ازدراء الأديان التى انتشرت بشكل غير مسبوق فى الفترة الأخيرة .
&إن مثل هذه الفتاوى باتت مثارا للتندر والسخرية ليس فقط على الساحة المحلية بل العالمية أيضا, وتكفى متابعة التقارير والمقالات المنشورة فى كبريات الصحف ووسائل الاعلام الغربية والأمريكية, حول تلك الفتاوى تحديدا, منها ما نُشر فى «الفورين بوليسى» تحت عنوان «أغبى خمس فتاوى» تضمنت بعضا من هذه الأمثلة, وأيضا فى «الواشنطن بوست» حول تحريم بعض الجماعات الجهادية لأكل «الكرواسون» باعتباره رمزا للاستعمار الغربى, تدليلا على حال التخلف والجمود الذى تعانى منه المجتمعات الاسلامية. ومعروف أن هذا الاهتمام اللافت لقضية الفتاوى (الشيعية منها أوالسنية وهى الغالبة الآن لكثرتها) فى الدوائر الغربية بدءا منذ الفتوى الشهيرة لآية الله الخومينى باهدار دم الروائى البريطانى من أصل هندى سلمان رشدى على روايته آيات شيطانية فى 1989, والحادثة الأخرى تمثلت فى إعلان أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة, الذى قُتل على أيدى القوات الأمريكية فى النهاية, الجهاد أو الحرب وفق فتوى دينية على الولايات المتحدة فى أواخر التسعينيات ما تسبب فى أحداث 11 سبتمبر 2001 هناك, ومنذ ذلك التاريخ أصبح تناول الفتاوى من الموضوعات شبه الثابتة فى هذه الوسائل. لذلك فمهما بُذل من جهد وأموال لتحسين صورة الاسلام فى الغرب فلن تُجدى طالما استمراصدار مثل هذه الفتاوى والترويج لها.&
لا شك أن خطورة هذه الظاهرة تتضاعف مع حالة الركود الفكرى الذى صار سمة أساسية لمجتمعاتنا منذ عقود طويلة اختفى فيها التنوير والاصلاح والاجتهاد, واهتزت أركان الدولة المدنية الحديثة التى نتحدث عنها كثيرا دون أن نبذل جهدا حقيقيا لإعادة بنائها, فى الوقت الذى تصيبها فيه تلك الفتاوى فى مقتل, لأنها تنشئ قواعد عرفية بالتوازى مع القانون العام وفى تناقض معه. إن جانبا كبيرا من المشكلة يأتى من حالة الفوضى فى هذه الدائرة شديدة الاتساع, فكل إمام مسجد أو زاوية أو محاضر فيما يُعرف بحلقات الدروس الدينية يفتى, وكل مشايخ التيارات السلفية يفتون أيضا, وأمراء أو قيادات جماعات الاسلام السياسى يفعلون الشىء نفسه, رغم أن شرط التأهيل للإفتاء ليس متوافرا, أى هى فتاوى بدون ترخيص ولكنها تنتشر بسرعة البرق فى المجتمع, والمؤكد أيضا أنها تُستخدم كأداة أو جزء من الصراع السياسى على السلطة.
&إن مواجهة تلك الظاهرة الخطيرة التى تتسلط على عقول الناس خاصة البسطاء منهم لا تتحمل الإبطاء لأن الفتوى وإن لم تكن ملزمة فإن لها سلطة معنوية لا يمكن إغفالها. وليس أقل من أن يصدر قانون يُنظم هذه العملية ويُقصرها على جهة الاختصاص, لأن ه فى هذه الحالة ستتحدد المسئولية وستكون هناك رقابة ومحاسبة على من يتصدى للفتوى, وبالطبع إن ما سيساعد هذا القانون هو وجود خطاب دينى مستنير يُحذر من هذه العشوائية ويُحد منها. فهل هذا ممكن؟
&
التعليقات