فواز حمد الفواز

في عمود سابق تحدثت عن واقع الاقتصاد الإيراني وما يواجه من تحديات. مدخل العمود كان الاقتصاد السياسي خاصة أن إيران لا تزال تعيش مرحلة التشكل على أثر تبعات الثورة والحرب. إحدى محاولات إيران لإعادة ترتيب البيت اقتصاديا كانت ولا تزال سياسة التخصيص. في هذا العمود أستقي من ورقة عمل لكيفان هاريس - kevan Harris أستاذ الاجتماع في جامعة كاليفورنيا UCLA. على أثر انتخابات 2009 المشكوك فيها التي انتهت بفوز أحمدي نجاد لفترة ثانية - ضابط الحرس الثوري السابق - ذكر كثير من المحللين مثل عباس ميلاني أن إيران تحكم من ثلة عسكرية أمنية وأن الحرس الثوري يسيطر على نحو 60 في المائة من حجم الاقتصاد. بينما يصفه إيراني آخر بأنه "مركب عسكري - صناعي - تجاري" يقف على قمته الحرس الثوري. تنطلق هذه الأوصاف من مركزية الدور السياسي الأمني إلى الدور الاقتصادي ولكن طبقا لهاريس فإن الصورة والتغيرات والمحاولات أكثر تعقيدا. لعل أهم ناحية في الصورة النمطية أنها تزعم بحالة من المركزية في الإدارة الاقتصادية، بينما هناك مراكز قوى اجتماعية واقتصادية متعددة وأحيانا في تنازع ما يتنافى مع المركزية. الوضع الاقتصادي في إيران يحتاج إلى التخصيص لأسباب متفق عليها في إيران بسبب تردي الأوضاع. بعد الثورة تأسست مئات الشركات الحكومية التي سيطرت على مفاصل الاقتصاد ولذلك أصبحت هدفا للتخصيص.&

تتمخض التجربة الإيرانية وخاصة منذ 1989 في تجاذب سياسي اجتماعي بين مجموعات في أعلى وأسفل الهرم غالبا في تنازع بينها لمحاولة التخصيص ولكن طبقا لهاريس لم يحدث تخصيص حقيقي بل تخصيص زائف. ذكر الخمنائي في 2006 أن إيران تواجه جهادا اقتصاديا وأنه لا بد أن ينتهي بتخصيص 80 في المائة من القطاع العام، كما ذكرت الحكومة في 2011 أنها حققت واحدة من أكبر عمليات التخصيص في العالم بتحويل 300 شركة حكومية إلى القطاع الخاص تصل قيمتها إلى 85 مليار دولار، ولكن دراسة للبرلمان أكثر صراحة ذكرت أن ما خصص فعلا بلغ نحو 5.13 في المائة, بينما ذهب أغلب الملكية إلى "تنظيمات" تحت رعاية الحكومة وجزء آخر إلى متعهدين من الباطن للشركات الحكومية (فمثلا هناك شركات يملكها الحرس الثوري وبعض المصارف الحكومية ومؤسسات التقاعد والتأمين والهيئات الثورية مثل مؤسسات تملكتها الحكومة بعد مصادرة أملاك الشاه وبعض رموز نظامه ومؤسسة الشهداء وبعض الجمعيات الخيرية والأوقاف وما يسمى أسهم العدل - حيث يتم تحويل أسهم إلى الفقراء وبعض أصحاب المهن ولكن لا تباع أو تطرح في السوق) وبالتالي فإن مجمل هذه تحت رعاية حكومية مباشرة أو غير مباشرة. أصبح التخصيص زائفا بمعنى التحول من ملكية حكومية إلى رعاية حكومية في القرار المالي والاقتصادي الحقيقي.&&

السبب الرئيس، طبقا لهاريس، أن الدور الاجتماعي السياسي للثورة أدى إلى قاعدة اجتماعية عريضة تعتمد عليها الطبقة الحاكمة، وبالتالي هناك قاعدة تحتية لا ترى في التخصيص الحقيقي مصلحة بينما الطبقة الحاكمة ترى في الاستقرار والمحافظة على مركزية الحكم أهمية قصوى. إضافة إلى أن هناك نخبا متنامية رأت في الوضع الحالي مصلحة للاستمرار من خلال سياسة استبدال الواردات والاستفادة من الواردات الرسمية وغير الرسمية وتبادل الوظائف بين القطاع العام وخاصة العسكري الأمني والمؤسسات التابعة. كلتا القوتين لا تشجع على التخصيص ولكن الأمور أكثر تعقيدا تحت السطح. في ظل هذه التركيبة تصعب عملية التخصيص. من ناحية فكرية تذكر كرن شودري أن القوة التنافسية في الاقتصاد لا تنشأ بسبب تدمير القطاع العام ولكن بتقوية الحكومة لمهام التنظيم والانضباط والإدارة وفعالية تنفيذها. من تناقضات التخصيص طبقا لكفمان وهاقرد "لكي تقلص الحكومة دورها وتزيد سعة السوق لا بد لها أن تكون قوية للتنفيذ" ولذلك هناك تضارب واضح بين المركزية والاستعداد للتخصيص. إحدى الإشكاليات أن المادة 44 من الدستور الإيراني ليست واضحة، فهي جاءت على خلفية دور المفكرين اليساريين في بداية الثورة ولكن إيران أيضا لم تلغ أو تنكر دور القطاع الخاص. تفسير المادة والتجاذبات الاجتماعية السياسية جعلت إيران أحيانا مثل تجربة روسيا وبعض الدول الفاشلة في التخصيص، وأحيانا قليلة مثل تجربة بولندا الناجحة، وأخيرا مثل تجربة مصر حيث تغلب مصالح النخبة بينما القاعدة العريضة تعاني على الرغم من التخصيص.&

هذه الورقة كتبت في 2011 ولذلك جاءت قبل وصول روحاني المتعاطف مع التخصيص والاتفاق الذري وما تبعه من إزالة العقوبات الاقتصادية، ولكنها أيضا جاءت بعد انخفاض حاد في أسعار النفط وتآكل مداخيل قطاع عريض من العامة حيث يصل متوسط الراتب الشهري إلى 450 دولارا، كما يأتي التخصيص بتهديد للكثير من المنتجات الإيرانية الأقل جودة في غالبها، وأخيرا التوجس من انتهاء حقبة الخمنائي. كتب محلل إيراني أمريكي أن تجربة إيران تتمخض في مدى صعوبة تغلب إيران على نفسها، ولعل التخصيص والتردد والتلفيق حوله مثال مؤثر. لذلك علينا مراقبة الوضع عما إذا تستطيع إيران التغلب على نفسها وتبلع الدواء أم أنها سوف تخضع للتجاذبات المعروفة عنها على مدى العقود الثلاثة الماضية.