صالح عبد الرحمن المانع
علينا بناء القوة الذاتية الطامحة إلى وجود سلام يقوم على احترام المصالح الوطنية والعربية والإسلامية، وإيقاف التهديدات المحتملة ضد أوطاننا
بدأت قوات من عشرين دولة عربية وإسلامية في التوافد على مدينة حفر الباطن في شمال المملكة العربية السعودية للمشاركة في أكبر مناورة عسكرية تشهدها منطقة المشرق العربي. وتأتي هذه القوات من بلدان متعددة من العالم العربي والإسلامي من ماليزيا وباكستان شرقاً، ودول مجلس التعاون، والأردن ومصر وتركيا وتشاد والمغرب وموريتانيا وجزر القمر، بالإضافة إلى «درع الجزيرة».
وتشارك في هذه المناورات قوات برية وبحرية وجوية، وقد أعلنت معظم المناطق الواقعة في شمال المملكة وشمال غربها مناطق يحظر على الطيران المدني استخدامها لمدة أسبوعين، مما عنى أنه ينبغي على الطائرات المدنية التي تطير عبر هذه المنطقة، استخدام طرق طيران بديلة قد تضيف من نصف ساعة إلى ساعة من زمن الرحلات الجوية المدنية العابرة لهذه الأجواء.
وللشمال نكهة خاصة في المملكة، فهواؤه بارد، ويتميّز أهله وقبائله بالشجاعة والكرم، وعلى الرغم من شحّ المياه في أجزائه الشرقية، إلا أنّ المياه الجوفية الحلوة والمزارع الخاصة بإنتاج الزيتون وتمر «الحلوة»، تعطي الجوف المشهورة كذلك بتربية الماشية، أهميةً كبيرة للاقتصاد الزراعي السعودي. وخلال الأربعة أعوام الماضية، اكتشفت، وتمّ استغلال، كميات وافرة من معدن الفوسفات، وغيره من المعادن والفلزّات ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية في هذه المنطقة من المملكة.
وكما أنّ للشمال طعمه ومذاقه، فإنّ لمناورة «رعد الشمال» أهميتها الاستراتيجية، فهي تأتي في وقتٍ تشهد فيه المنطقة العربية توتّرات ضخمة في سوريا والعراق ومواجهات بين قوى توسّعية مثل إيران وروسيا، وكذلك زيادة وتيرة الأعمال العسكرية الوحشية التي تقوم بها «داعش» ضد المدنيين في هذين البلدين.
ولذا، كان من الأهمية بمكان تذكير الإيرانيين والإرهابيين مثل «داعش»، بأنّ الدول العربية والإسلامية قادرة على الدفاع عن نفسها مجتمعة إذا اضطرّها الأمر لذلك.
وبالمنطق نفسه، فإنّ المملكة والدول العربية والإسلامية ليست من دعاة الحرب، ولكنها سترسل الرسائل تلو الأخرى إلى الأعداء والمناوئين بأنّ أرض الحرمين ستبقى بعون الله حرّة وأبيّة ومستقلّة ولن تستطيع قوى الإرهاب أو القوى الداعمة لها التأثير على قرارنا السياسي، أو محاولة التوسّع على حساب أهلنا وإخواننا في محيطنا الإقليمي.
كما أنّ تقوية أنفسنا توجه رسالة إلى حلفائنا في الدول الغربية بأنهم يتحالفون مع دول قوية وليست دولاًَ ضعيفة، وهي إذْ تقدِّر هذا التحالف مع الدول الصديقة والكبرى، إلا أنها ستقوم بما يكفي للدفاع عن نفسها وعن أخواتها في دول الخليج العربية، إذا تعرّضت أيّ منها، لا قدّر الله، لأيِّ خطرٍ داهم.
وقد أثبتت حرب تحرير الكويت قبل أكثر من عقدين ونصف أننا نقف في دول مجلس التعاون ومعنا بقية الدول العربية والإسلامية معاً صفاً واحداً لمقاومة أي اعتداء تتعرض له بلداننا العربية والإسلامية. ومبدأ «الأمن الجماعي» ينطبق بشكلٍ مميّز على مثل هذا التحالف الإسلامي.
بقيَ أن نقول إنّ الحرب في اليمن باتت بعون الله تقترب من نهايتها، ولكن الوضع السوري لا يبشّر بخير، فقوات الأسد المتحالفة مع «داعش»، والقوات الكردية، تزحف حثيثاً لاحتلال مدينة «حلب» ثاني أكبر المدن السورية. وقبل عامين، صرّح أحد المسؤولين العسكريين الرفيعين السابقين في الإدارة الأميركية بأنّ الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي احتمال لسقوط مدينة حلب في يد قوات الأسد، ولكن الإدارة الأميركية الحالية ترينا أنّ مثل هذه الوعود التي قطعتها على نفسها قبل عامين يمكن أن تكون سراباً بقيعة. فزعيم الكرملين يتصرف في سوريا وكأنها دولة تابعة له، وهو يخدع واشنطن بكل الطرق الممكنة، بما فيها تحذير تركيا من مهاجمة الأكراد الذين يزحفون على حدودها ويريدون إقامة دولة كردية تمتد من الحدود الإيرانية وحتى البحر المتوسط، وهو ما تعتبره تركيا تهديداً وجودياً لها. وقد استطاع الرئيس بوتين إقناع الرئيس أوباما بإبعاد الأتراك قدر الإمكان عن مقاومة الأحزاب الكردية وعن تخفيف دعمها للمقاومة السورية المعتدلة. حيث إنّ كلاً من روسيا والولايات المتحدة تريان في الحزب الديمقراطي الكردستاني قوة أرضية قادرة على قتال «داعش»، ودعم سيطرة الأسد في دمشق، وإنشاء حزام أمني شمالي، وهو ما يهدد فعلاً المصالح التركية.
والإشكالية الرئيسة، أنّ نائب الرئيس الأميركي «جو بايدن»، الذي كان يتبنّى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، وكذلك الحال مع سوريا، ولم يتمكن من تحقيق هذه الرؤية في أوائل عهد أوباما، بات اليوم مع نهاية فترة رئاسته، قريباً من تحقيق هذه الرؤيا السياسية، التي سيكون لها تأثير عميق في مستقبل هذه المنطقة من العالم.
ومع اقتراب نهاية ولاية أوباما، فإن سياسة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط لم تعد تهدد بعودة روسيا بشكلٍ قوي إلى المنطقة فحسب، بل باتت أيضاً تهدد وجود الدول نفسها بتعزيز قوة الجماعات الخارجة عن النظام، وبإعادة تشكيل الحدود في المنطقة وظهور دويلات جديدة، مثل الدولة الكردية، أو الدويلة العلوية، أو الدويلة الحوثية في اليمن!
ولاشكّ في أنّ المخاض طويل وشاقّ، وينبغي الاستمرار في بناء التحالفات السياسية والعسكرية الإقليمية منها والدولية. ومع ذلك، يجب أيضاً بناء القوة الذاتية الطامحة إلى وجود سلام يقوم على احترام المصالح الوطنية والعربية والإسلامية، وإيقاف التهديدات المحتملة ضد أوطاننا.
التعليقات