&خالد الحروب
ما الذي يدفع حركة «حماس»، وقبلها جماعة «الإخوان المسلمين» الأردنية، وقبل الاثنتين تنظيمات محلية «إخوانية» عدة، إلى الإعلان بوضوح أن لا علاقة لها بجماعة «الإخوان المسلمين» الأم في مصر، أو مع «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»؟ ما يحدث في صفوف «الإخوان» اليوم في بلدان عدة، هو نتيجة طبيعية لإهمال تراكم أسئلة صعبة على مدار عقود عدة، واجهتها الجماعة بالهروب الدائم إلى الأمام. أهم الأسئلة التي تواجه الجماعات، كما الأفراد، سؤال المغزى والمعنى والهدف: ماذا تريد الجماعة حقاً، وكيف تحققه؟ وما معنى وجودها؟ وهل يبقى الهدف ثابتاً أم يخضع لاشتراطات وإكراهات حركة الحياة العريضة وما يرافقها من حتمية التغيير المستمر.
في الأدبيات «الإخوانية» الأولى التي تركها حسن البنا، المؤسس والرمز الذي لا خلاف عليه في صفوفهم، كتب أن هدف الجماعة هو تحقيق «استئناف الحياة الإسلامية». كان البنا مهجوساً بوطأة غياب «المسلكية الدينية» نتيجة لما رآه تغريباً قوياً رافق الاحتلال البريطاني وحرف المجتمع المصري عن الإسلام كما رآه. لهذا، كانت فكرته الأساسية هي «التربية»، أي تربية الأفراد والمجتمع بأسره على تعاليم الإسلام كي يعود الدين والتدين السمة الحاكمة لسلوكيات الجميع. الكلام والأفكار الكبيرة اللاحقة حول الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية وغيرها، جاءت في مراحل أخرى، وكانت إما لاستكمال الفكرة الأم، أو تعزيزها. وهي أفكار لم يقدم البنا فيها أي تنظير حقيقي يستحق التوقف عنده، ما خلا الحمولة الشعاراتية الجذابة.
على ذلك، فقد تقولب «الإخوان المسلمون»، عملياً، بكل تنظيماتهم وفق فكرة «التربية» و «الإعداد» التي استنزفت جهودهم ووقتهم وكل طرائق تفكيرهم واستراتيجياتهم. ونتيجة هذا التوزيع المقلوب في الأولويات والهوس بـ «التربية»، بقيت الأفكار الكبرى مثل «الدولة» و «السياسة» تعاني فقراً تنظيرياً مدقعاً. وانعكس ذلك في جوانب نجاح «الإخوان» وفشلهم، ذلك أنه بالتوازي مع نجاحهم الباهر في مجالات الحشد والتنظيم وتكثير الأتباع و «تربيتهم على الإسلام»، وإحالة الأسئلة المعقدة الكبيرة على الشعار المريح «الإسلام هو الحل»، فإن الفشل «الإخواني» يزداد دوياً كلما تسلموا دفة السياسة الوطنية أو ابتعدوا من مربع «التربية» الدافئ.
المنظر الوحيد في صفوف «الإخوان» الذي امتلك رؤيا سياسية، سواء على المستوى الدولتي أو العالمي، وألحق بها منهجاً للتطبيق كان سيد قطب. لكن رؤيته تلك اتسمت بالتطرف الشديد الذي أسس لكل التطرف الإسلاموي الدموي، الذي جاء لاحقاً على شكل تنظيمات مسلحة وجهادية ظلت تتناسل من جماعات السجون المصرية، إلى أفغانستان، وصولاً إلى «القاعدة» و «داعش». قدم قطب فهماً شبه دموي لثلاثة مفاهيم لا تساوم هي: الربوبية، والألوهية، والجاهلية، ساهم كل منها بنصيب مُقدر في التأسيس لفكر التطرف الذي نعيشه اليوم. أخطر جوانب الثلاثية تلك، كان وصف المجتمعات المسلمة كلها بأنها عادت إلى طور «الجاهلية»، ما فتح أبواب الجحيم لكل مسوغات إعلان الحرب عليها، ورفض أي مساومة، أو حلول وسط مع تلك المجتمعات وحكوماتها وحتى سلطاتها الدينية التقليدية، لأن ذلك يقع في إطار «ترقيع» يرفضه «المنهج الإسلامي» القطبي. انتقد قطب كل الأفكار التي جاء بها رواد الإصلاح الإسلامي الذين سبقوه و «الإخوان»، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، واعتبرها تعبيرات انهزامية أمام حضارة الغرب المادية، ومحاولة لاستدخال مفاهيم غربية في «نظام إسلامي كامل ومكتمل» لا يحتاج إلى إضافات خارجية.
أربكت نظرية قطب البنية الفكرية الداخلية لـ «الإخوان»، إذ على رغم عدم تبنيها رسمياً من جانب القيادات المتلاحقة للجماعة، إلا أنها اتسمت براديكالية مغرية للشباب المتحمس الذي لم تستطع الأفكار الغامضة والهلامية للجماعة في مجال السياسة والتعامل مع الحكام والأنظمة السياسية، الاستحواذ عليه. وعند كل منعطف حاد كانت تتعاظم فيه التململات الشبابية الداخلية، كانت القيادة «الإخوانية» تسيطر عليها عبر آليات «السمع والطاعة» ورفع راية «مصلحة الدعوة» التي هي الأقنوم شبه المقدس المرفوع دوماً في وجه كل وجهة نظر نقدية أو معارضة داخلية. لكن القسر على الطاعة لم يمنع أفكار قطب من التجذر العميق، بل والتمكن عملياً من البنية الفكرية التأسيسية لأجيال من «الإخوان». ولم تستطع أفكار الهضيبي مثلاً، في كتابه «دعاة لا قضاة»، منازلة أفكار وطروحات قطب في «معالم في الطريق» أو تلك المبثوثة في تفسيره «في ظلال القرآن» بأجزائه الستة. ظلت أفكار قطب في هذين الكتابين الآخرين مقررة في مناهج التأهيل التي يتربى عليها شباب «الإخوان»، ولم يستطع كتاب الهضيبي ولا أفكار الاعتدال النسبي الأخرى اختراق مناهج التربية، وهي الأفكار التي حاولت تفنيد فكرة «جاهلية» المجتمعات الإسلامية. وكأن الكارثة الفكرية التي أحلها سيد قطب بالفكر «الإخواني» (ثم في المجتمعات العربية) عبر فكرة «الجاهلية» حمالة التفسيرات، لم تكن كافية، فجاء شقيقه محمد قطب في «جاهلية القرن العشرين» ليغلق الثغرات التي ربما حاول بعضهم إيجادها للدفاع عن الأخ المؤسس وفكرته.
فكرة قطب الملحقة بفكرة «جاهلية المجتمعات المسلمة» كانت رفضه المطلق لكل ما هو قادم من خارج المنظومة الدينية كما يراها: «خذوا الإسلام جملة أو دعوه»، كما كتب وشدد. ما هو الإسلام الذي يجب أخذه أو تركه؟ لا أحد يعرف تفسيره وعمارته إلا قطب نفسه. لكن المهم هنا أن هذه الفكرة أرست دعائم الكسل الفكري والتنظيري الهائل داخل «الإخوان»، على قاعدة أن كل فكرة تحاول معالجة نقص بادٍ في المجتمعات الإسلامية هي فكرة فاشلة أصلاً، لأنها تتصدى لمعالجة جزء فاسد من كل فاسد. المعالجة الحقيقية هي معالجة واستئصال الكل، أي «الجاهلية المعاصرة»، وعندما يتم ذلك، وهي المهمة الأولى والحقيقية لـ «المجموعة المؤمنة» التي دعا إليها قطب، فإن كل جوانب النقص والمشاكل في المجتمعات والبلدان تذهب إلى الأبد مع اندحار «المجتمع الجاهلي». على ذلك، فلا فائدة تُرجى من أي تنظير سياسي أو فكري أو اقتصادي أو اجتماعي يحاول مُقاربة المعضلات المعاصرة للمجتمعات المسلمة. التركيز الكلي والأساسي يجب أن يكون على إنجاز التغيير الجذري والقاطع والشامل لطبيعة هذه المجتمعات. يفسر هذا جزءاً من غياب أي برامج سياسية تفصيلية تواجه ما تعاني منه المجتمعات التي يعيش فيها الإسلاميون. ومن هنا، فإن مقولة «الإسلام هو الحل» يمكن تعقلها بكونها الترجمة الأكثر نعومة لتلك الفكرة القطبية القاصمة.
أخذاً لكل ذلك بالاعتبار، ومع مرور الزمن والأحداث، تواصل اتساع الفجوة بين الحشد والتنظيم والتجنيد الذي بلغ مستويات تجاوزت كل الأحزاب الأخرى، وغياب التنظير السياسي وإنتاج برامج وأفكار تتناسب مع التغيرات الهائلة والكبيرة التي حلت بالمجتمعات العربية والإسلامية (ترسخ فكرة الدولة الوطنية، سيادة فكرة «الترقيع» بين الإسلام والحداثة على رغم أنف الفكر القطبي، تعقد العلاقات الإقليمية والدولية، وانتشار مفاهيم الحقوق الحديثة، مع تراجع التعريف الديني للأفراد وحقوقهم في الدساتير، مقابل ارتقاء مفهوم المواطنة المتساوية، وهكذا). تكرر انكشاف تلك الفجوة في كل تجربة وصل فيها «الإخوان المسلمون» على رافعة الحشد والتنظيم والشعار الجامح إلى السلطة، إذ كان يصدمهم التصحر الفكري والتنظيري الذي ظل يتراكم بإهمال طيلة عقود، وانتهى بأن أحاط بالجماعة وتسبّب في اختناقها السياسي.
خلال عقود الحياة السياسية الطويلة لـ «الإخوان المسلمين»، قامت أحزاب أممية وثورات أخرى وأنجزت إمبراطوريات عالمية، كالبلاشفة، وتركت آثاراً عالمية. وقامت دولة غريبة في قلب العالم العربي قريباً من جغرافيا «الإخوان» المؤسسة، ونجحت واشتدت. واستقلت كل الدول العربية وقادتها نخب متنوعة كثير منها أضعف من «الإخوان» في الحشد والتنظيم، وتكرست تلك الدول، وبقي «الإخوان» على الهامش. «الإنجاز» الوحيد لـ «الإخوان» تقلص إلى مستوى «الدفاع عن الوجود» والبقاء على قيد الحياة. صار بقاء «التنظيم» هو الهدف وغابت الأهداف الأخرى جميعها أو لم تتحقق. الوحيد الذي تحقق منها هو «استئناف الحياة الإسلامية» ونشر التدين في طول المجتمعات العربية وعرضها. ارتفعت مستويات التدين مقارنة بما كانته في مصر العشرينات والثلاثينات في شكل كبير، في تحدٍّ مدهش لنظرية التحديث الخيطية التي افترضت الأفول الحتمي للدين والتدين. لكن بعد ذلك «النجاح»، يصعب رصد أي شيء آخر. كأنما تحقق هدف البنا وبعده لم يعد من سبب وجيه لاستمرار الجماعة. والتدين ذاته تجاوز «الإخوان» وتحداهم وأخذ أشكالاً أكثر تطرفاً حتى من تلك التي أملها البنا نفسه، واتخذ تنويعات سلفية وأخرى كثيرة ليست بالضرورة «إخوانية». في كل مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية، هناك ارتفاع متزايد في وتائر التدين والالتزام بالطقوس والشعائر، وهو الالتزام الذي امتلك تحقيقه عقل حسن البنا ورفاقه الأوائل ووجدانهم. نجح «الإخوان» في «أسلمة» المجتمعات المسلمة وفق رؤيتهم، لكنها أسلمة فتحت بوابات الجحيم الذي طاول الجميع.
التعليقات