&يوسف مكي
بقيادة فلاديمير بوتين، خرجت روسيا من كبوتها، الكبوة التي تسبب فيها سقوط الدولة السوفييتية. وبرزت روسيا الاتحادية مجدداً، كقوة عسكرية واقتصادية. وكان لا بد أن يترجم ذلك، باستراتيجيات جديدة، تعبر عن فائض هذه القوة. وخلال السنوات الأخيرة، أعادت روسيا حضورها، في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وكان آخر ترجمة لهذا الحضور، ما حدث في أوكرانيا، والذي انتهى بعودة شبه جزيرة القرم، لدولة روسيا الاتحادية.
اتخذت روسيا قرارها الاستراتيجي، بالتدخل العسكري في سوريا، للحفاظ على آخر موقع استراتيجي لها بالمتوسط، ولإنهاء حالة الانكفاء، والخروج بقوة إلى المسرح الدولي. والقرار رغم شكله المفاجئ، لم يكن وليد لحظة، من لحظات الأزمة السورية، بل سبقته مؤشرات وإفصاحات عديدة، لم تقتصر على حق النقض الذي استخدمته روسيا والصين، ثلاث مرات، لمنع صدور أي قرار أممي يجيز التدخل الأممي في الشأن السوري.
المفاجأة الكاملة، هي في قرار بوتين، ومن غير مقدمات، سحب القوة العسكرية الأساسية الروسية من سوريا، في وقت كانت فيه هذه القوات تتقدم على كل الجبهات، فيما بات معروفاً بالحرب على الإرهاب.
ومما يضاعف من المفاجأة، أنها أخذت مكانها، قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر «جنيف3»، لإيجاد مخرج للأزمة السورية.
قيل إن قرار الانسحاب، كان تعبيراً عن غضب روسي، من تصريحات، صدرت عن وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، والمندوب الدائم للجمهورية العربية السورية، بشار الجعفري. لقد بدت، تلك التصريحات، مفتقرة للمرونة، ومناقضة للتصريحات الروسية، حول أهمية تحقيق عملية انتقال سياسي في سوريا، استناداً إلى توصيات مؤتمر فيينا، حول الأزمة السورية. وعلى قاعدة قرارات هذا المؤتمر، وافقت المعارضات السورية، على حضور مؤتمر «جنيف3».
رفض المسؤولون السوريون، الحديث عن أي مشروع سياسي، لرسم مستقبل سوريا، باعتبار ذلك استباقاً للنتائج، ولم يتقدموا أية خطوة، تساعد في إنجاح اجتماع جنيف. وقد رأت القيادة الروسية، أن تصريحات المعلم والجعفري، ستؤدي حتما لإفشال اجتماع جنيف، حتى قبل انعقاده.
واقع الحال، أن جميع الأطراف، الدولية والإقليمية، متفقة على أن مهمة «جنيف3»، هي رسم خريطة طريق، لحل الأزمة، على قاعدة تحقيق انتقال سياسي، يكرس وحدة الأراضي السورية، ويصيغ دستوراً جديداً للبلاد، ويعتمد على صناديق الاقتراع، في اختيار القيادة السياسية الجديدة.
يبدو أن القيادة السورية، راهنت في تشددها، على قراءة، مضمونها أن التدخل الروسي العسكري في سوريا، هو قرار استراتيجي لا رجعة عنه. وأن أي تشدد من قبل القيادة السورية، لن يؤدي إلى انسحاب عسكري روسي، يجعلها تواجه طوفان الأزمة بمفردها.
حرصت أجهزة إعلام الحكومة السورية، على التأكيد، بأن ما حدث هو فعل منسق بين القيادتين الروسية والسورية، وأن لا وجود لأي خلاف بينهما. وجاءت التصريحات حول هذا الانسحاب، غير متطابقة مع التصريحات الروسية. فبينما أصر الروس على أن الانسحاب العسكري، سيشمل كل القوات الأساسية، أشار الإعلام السوري إلى أن ما جرى، مجرد إعادة تموضع للقوات الروسية، بعد أن حققت أهدافها، مؤكداً اقتدار الجيش السوري، في مواصلة الحرب على الإرهاب.
التطورات التي أعقبت قرار الانسحاب، شهدت إشادة حكومية سورية، بمواقف روسيا ودعمها للشعب السوري، وتراجعاً عن لغة التشدد واستعداداً للقبول ببرنامج انتقال سياسي، بل والتقدم بورقة من الحكومة السورية، تعكس رؤيتها لطبيعة الانتقال.
تغيرت صورة المشهد لاحقاً، وألقى الرئيس الروسي بوتين، خطاباً أكد فيه أنه لن يسحب جميع القوات الروسية من سوريا. وأشار إلى وجود طائرات وقواعد عسكرية، وأساطيل، ستواصل دعمها للدولة السورية في الحرب على الإرهاب. وعبر عن تمنياته باستمرار الهدنة، والتوصل إلى حل للأزمة السورية من خلال مؤتمر «جنيف3».
بل إن بوتين ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فشدد على أن القوات الروسية التي انسحبت، بإمكانها العودة إلى سوريا، خلال ساعات. و تبع ذلك الإعلان، عن وصول طائرات مروحية روسية جديدة، ومتطورة للمشاركة في القتال على الجبهة السورية.
في معرض إشادته بدور قواته في سوريا، أشار بوتين إلى أن الجيش الروسي، تمكن من خلال المشاركة في الحرب بسوريا، من اختبار معدات وأسلحة جديدة، على مسرح المواجهة، بما يسهم في تعزيز قدرات وخبرات الجيش الروسي الاتحادي، ويعزز قدراته في الدفاع عن أمن بلاده.
لذلك، فإن قرار الانسحاب العسكري الروسي من سوريا، لم يكن سوى نوع من الضغط، على حليف، تمكن بوتين خلاله تعديل الموقف السوري، وجعله أكثر مرونة، بهدف إنجاح مؤتمر جنيف، ولتحقيق مصالحة وطنية، وإيجاد حل نهائي للأزمة، على قاعدة تحقيق انتقال سياسي، من نظام الحزب الواحد، إلى التعددية وتداول السلطة.
يسعى الرئيس بوتين، بمبادراته الأخيرة، بالشراكة مع الإدارة الأمريكية، لفك الحصار الاقتصادي الذي تعانيه بلاده، وبناء علاقة جيدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويدرك أن حل الأزمة السورية، هو رهن بشراكة دولية، وبقبول جماعي لهذا الحل.
وقد أكد، من خلال تدخله العسكري وخروجه السريع، قدرة قواته على المناورة، وتصميمه على عدم الغرق في الأزمة السورية، وعدم تكرار المشهد الأفغاني. وقد أتاح له هذا التدخل، استعراض قوته العسكرية. وأبرزه كعنصر رئيسي فاعل ومؤثر في السياسة الدولية. وأنه يتقدم بحزم نحو أهدافه، في وقت تتراجع فيه السياسة الأمريكية، وتبنى نهجاً محافظاً.
لكن سوريا بالنسبة له هي شأن آخر، فهي سبيله للتواجد في مياه المتوسط، وهي عمقه الاستراتيجي، هي جزء من مصالحه الحيوية. ولذلك لا يمكن وضع الانسحاب من سوريا، إلا ضمن سياقات تكتيكية، ليس لها مكان من الإعراب، في التحليل الاستراتيجي.
التعليقات