&رضوان السيد& &

&ليست هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن غسّان سلامة، فقد كتبتُ عنه عام 1987 عندما نشر رسالة من أجل التغيير العربي بعنوان: «نحو عقدٍ اجتماعي عربي جديد». يومَها حملت عليه فئتان: أتباع الأنظمة العسكرية والأمنية، واليساريون العرب. أما الفئة الأُولى فقد اتهمته بخيانة العروبة، عروبتهم هم بالطبع، وأما الفئة الأخرى فقد اتهمته باليمين، وبمغادرة قضايا الشعوب والانتماء للإمبريالية! وقد قرأتُ الكتاب يومَها، وذكّرتُهُم بدراسات سلامة عن السياسة الخارجية السعودية، وعن الاستشراق، ومعنى الدولة القوية، واتجاهات الهيمنة بعد اقتراب كسوف شمس الاتحاد السوفياتي، والسياسات الأميركية المنتظَرة. وقلت «إنّ كتاب غسّان سلامة استشرافٌ ضروري بعد فشل تجربة الدولة الوطنية العربية التي قادها العسكريون عبر عقود عدة». وفي المرة الثانية عندما تولّى وزارة الثقافة في لبنان، ونظّم مؤتمراتٍ عامة عربية ودولية عدة، وشارك في الإعداد للقمة العربية ببيروت عام 2002. بعدها غادر غسان سلامة لبنان، حيث عمل مع الأُمم المتحدة، وفي السوربون، ومعهد الدراسات الدبلوماسية الدولية، وتولّى مهامّ عدة عربية وعالمية رفدها بخبرته واستنارته، وأفقه الشاسع. ولا يزال المختصون يقرأون كتابه المتخصص عن الولايات المتحدة وسياسات أميركا الخارجية في زمن الهيمنة. وأذكر أنه عندما كان وزيرًا للثقافة، زار إيران في إحدى المناسبات، ودعا وزير الثقافة الإيراني في عهد الرئيس خاتمي (مهاجراني)، لزيارة لبنان. وفي غداءٍ للوزير الضيف في بيروت، وكنا شديدي التفاؤل بالديمقراطية الإسلامية وحوار الحضارات، اللذين دعا إليهما خاتمي، سأل سلامة الوزير مهاجراني الذي يعيش في المنفى بلندن منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، عن احتمالات المستقبل القريب بالنسبة للديمقراطية في إيران، وبالنسبة للعلاقات العربية - الإيرانية. وتردد مهاجراني، ثم قال: «التنبؤ صعب، والأوضاع ليست واعدة في الملفين، ونحن الإيرانيين مثلكم أنتم العرب ما عاد عندنا طموح في أكثر من الاستقرار، وتخفيف الضغوط على الناس، وهيهات! فهل يكون الأمر أمر ديمقراطية من دون ديمقراطيين، كما كتبتم يا أستاذ سلامة؟!».

إنّ مناسبة الكتابة للمرة الثالثة عن غسّان سلامة، مدعاة للخجل في أسبابها وتداعياتها ودلالاتها، لكنني ما استطعت الإعراض عن الكتابة، إذ في الأيام الماضية، دار في الصحف والتلفزيونات اللبنانية نقاشٌ اعتمد على الشائعات، مؤدّاه أنّ الحكومة اللبنانية رشحت لمنصب الأمين العام لليونيسكو، بعد انتهاء مدة البلغارية بوكوفا، سيدة اسمها فيرا خوري. وقد سارع وزير الخارجية جبران باسيل إلى إرسال الترشيح الرسمي باسمه واسم الحكومة لكي يقطع الطريق على غسان سلامة الذي أعلن عن انزعاجه في فضائية لبنانية من ترشيح السيدة فيرا خوري. راجعتُ بعض المسؤولين فقالوا: «إن سلامة ما ترشح رسميًا أو ما طلب من الحكومة ترشيحه!»، وقلت: «أنتم الذين ينبغي أن تسعوا لدى سلامة للقبول بأن يرشحه لبنان، لكنكم ما فعلتُم لا هذا ولا ذاك ولا ذلك». ومعنى «هذا» أنكم لم تفكروا ولم تهتموا. ومعنى «ذاك» أنكم رشحتم شخصية غير مناسبة. ومعنى «ذلك» أنكم ما جمعتم تأييدًا عربيًا للفكرة، بدليل أنّ الجامعة العربية بعد مجلس التعاون الخليجي أيدا ترشيح الكواري وزير الثقافة القطري السابق للأمانة العامة لليونيسكو!

قال وليم شكسبير في «هاملت»: «إن المصائب لا تأتي فُرادى». وقد أُصيب لبنان بالفعل وفي أقلّ من عقدٍ من الزمان بمصائب ينطح بعضها بعضًا، وأولُها استيلاء حزب مسلَّح على إدارة الشأن العام فيه. وثانيها ظهور الجنرال عون وأقاربه، أو بالأحرى أصهاره في الحياة السياسية اللبنانية. فقد أبدع صهره جبران باسيل في وزاراتٍ عدة من قبل، لكنّ إبداعاته في وزارة الخارجية تبلغ الذروة أو القاع لا فرق. فقد قاد حملة الخروج عن الإجماع العربي، ورفض استقبال الأمين العام للأُمم المتحدة عندما زار لبنان لأنه ما زاره في مكتبه. وأشاع مع محازبيه أنّ الأمين العام إنما جاء من أجل «توطين» المهجَّرين السوريين في لبنان! وقصدهم من وراء ذلك تبرير ما حدث، وجمع المسيحيين من حولهم بتخويفهم من السوريين مثل الفلسطينيين من قبل. وآخر إبداعاته، بل بالأحرى كوارثه (مع تسليم رئيس الحكومة أو الصمت كالعادة): ترشيح السيدة خوري لمنصب أمين عام اليونيسكو! إنها أُمورٌ تتعدى السياسة إلى الأخلاق، ولا من مُلاحظ أو محتج من السياسيين من داخل الحكومة أو خارجها!

على مدى أكثر من مائة عام، بنى اللبنانيون، ثم لبنان سمعة عربية وعالمية، في الثقافة والتعليم والتقدم النوعي أولاً، وفي السياسات العامة والعلاقات العربية والدولية ثانيًا. وقد عكّرت على ذلك، بالطبع، حروبنا الداخلية، وعكّر عليها أكثر استيلاء المسلحين على الدولة والمؤسسات وتعطيلها في العقد الأخير من السنين. لكنّ الذي حصل في الثقافة والسياسة والثقافة السياسية والعلاقات مع العرب والمجتمع الدولي، يتعدى تأثيرات حزب المسلَّحين، إلى المسائل الأخلاقية، وعلائق الأخلاق بالسياسة. فاللبنانيون تبلغ أعدادهم نحو خمسة ملايين، وهؤلاء جميعًا يتضررون (شأن مرافقهم المعطلة والفساد المستشري فيها) بتصرفات الحزب وتصرفات عون ومحازبيه. وإذا لم يكن هنا أملٌ في أن يتصدى السياسيون لباسيل، لأنّ أحدًا منهم ليس فوق رأسه خيمة، فلا أقلّ من أن يحاول رئيس الحكومة (الذي اعتبر الأوضاع في إحدى مراحل أزمة النفايات، بمثابة النفايات السياسية!) التصدي للانتهاكات التي تمسُّ أمن وشرف المواطنين والوطن، ونظام العيش فيه، لا أن يسكت عنها أو يشارك فيها ولو بالتمرير!

غسان سلامة أحد المثقفين العرب البارزين في العالم العربي والعالم. وهو أحد صُنّاع الاستراتيجيات الثقافية العربية والدولية، وخبيرٌ كبيرٌ في السياسات العامة، والعلاقات الدولية. وأنا موقنٌ أنه ما تصدّى للمسألة أخيرًا إلا كشفًا للفضيحة، ومحاولة منه للردع بالإعلان والإدانة.

وقد قال لي قبل أشهر في حفل صندوق التنمية الثقافية (الذي أطلق مبادرته، ويسهم في دعم التميز لدى الشبان والشابات العرب): «لا بد أن نفعل شيئا للتخفيف من أهوال الانهيار الذي تُعاني منه شعوبنا ودولنا، أو تضيع إنسانيتنا بعد أن ضاعت قوميتنا»! وأنا أقول له: إنّ الأمر كما قال المعري لحبيبته:

فيا دارها بالخيف إنّ مزارها

قريبٌ ولكنْ دون ذلك أهوالُ

&

&