&حسين مجدوبي&

في دولة متقدمة سياسيا وذات تاريخ ديمقراطي عريق وتتصدر مبيعات الصحف والكتب السياسية في العالم مما يدل على وعي اجتماعي عال، وتعتبر القوة الكبرى حاليا، يتصدر فيها سياسي من نوع دونالد ترامب بأطروحاته التي توصف بالعنصرية المشهد السياسي وتمثيلية الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة. واحتمالات فوزه والإقامة في البيت الأبيض واردة للغاية، وبناء عليه، التساؤل الذي يفرض نفسه بقوة: لماذا يصوت معظم الجمهوريين ونسبة هامة من الأمريكيين على سياسي من هذا النوع؟ وهل سيختار الأمريكيون ترامب رئيسا بعد باراك أوباما؟

تعتبر الولايات المتحدة من الدول الغربية التي كانت مهدا للعنصرية العميقة بسبب سياسة التمييز العنصري، وكلفت نهاية العبودية حربا لقي فيها مئات الآلاف حتفهم في منتصف القرن التاسع عشر، كما تطلب إلغاء التمييز في ولايات الجنوب خلال العقود الماضية& نضالا مريرا يستمر حتى الآن. لكن رغم هذا الوضع، لم تكن خطابات العنصرية تحضر في الحملات الانتخابية بشكل واضح حتى حدث هذا في الحملة الانتخابية الحالية 2015-2016.

&وكانت الولايات المتحدة، على الأقل خلال العقدين الأخيرين، تختلف عن أوروبا التي ظهرت فيها أحزاب قومية عنصرية مثل الجبهة الوطنية في فرنسا وعصبة الشمال في إيطاليا وحزب الحرية في هولندا ضمن هيئات سياسية أخرى استطاعت الوصول إلى الحكم ضمن ائتلافات والدخول إلى المؤسسات التشريعية الوطنية والبرلمان الأوروبي.

وفي الوقت الذي اعتقد فيه الكثير من المراقبين في دخول الولايات المتحدة مرحلة سياسية جديدة نتيجة وصول أمريكي أسود إلى البيت الأبيض، باراك أوباما، تأتي التطورات السياسية بمنحنى آخر، وهو احتمال خلافته من طرف سياسي لا يندد بجرائم كو كلوس كلان ويبني جزءا هاما من حملته الانتخابية أو خطابه السياسي على انتقاد الأقليات ومنها في الأساس الهسبان (القادمون من أمريكا اللاتينية وخصوصا المكسيك).

والمصطلحات والأطروحات التي يستعملها دونالد ترامب مثيرة للغاية، حسب المحلل السياسي دومنيك تييرني في عدد شباط/فبراير الماضي للمجلة الشهرية «ذي أتلتنيك» على ضوء تصريحاته السابقة قبل خوض الانتخابات حيث كان قريبا من إيديولوجية الحزب الديمقراطي منه إلى الحزب الجمهوري، بل كان ينتقد الجمهوريين.

وعمليا، طالب دونالد ترامب ببناء سور على طول الحدود مع دولة المكسيك لمنع ما يعتبره ويصفه بـ»منع المكسيكيين، مهربي المخدرات واللصوص والذين يغتصبون النساء من الدخول إلى الولايات المتحدة». ولم يكن واردا في قاموسه السياسي انتقاد المسلمين، ولكنه بعد الحادث الإرهابي في بلدة سان بيرناردينو في كاليفورنيا منذ شهور طالب بمنع المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة.

ويمكن قراءة تصريحات ترامب في إطار الاستفادة انتخابيا من «الوضع العاطفي» للرأي العام عندما يقع حادث معين ويصبح حديث الساعة ويعمل على خلق جدل في المجتمع، أي هو من طينة السياسيين الذين يستفيدون إلى أقصى حد من «السياقات السياسية والاجتماعية».

ولفهم الخطاب السياسي الحقيقي لدونالد ترامب بعيدا عن «الاستعراضات الخطابية» التي يقوم بها على شاكلة برامج التلفزيون الليلية، يجب معرفة كيف رصد مشاعر الأمريكيين البيض وجزءا من السود في دولة مثل الولايات المتحدة تعيش تغيرات مجتمعية هائلة وتخلق الجدل والانقسام.

في المقام الأول، استطاع إقناع الإنسان الأمريكي الأبيض أساسا ونسبة من السود وخاصة الذين تفوق أعمارهم الثلاثين بأنهم ضحايا السياسات الاقتصادية لرؤساء جاؤوا بعد مرحلة الرئيس الجمهوري رونالد ريغان وجورج بوش الأب.

في المقام الثاني، استطاع ضرب فكرة رئيسية وهي أن الولايات المتحدة لم تعد دولة الإثنيات المتعددة بل يجب أن تعود إلى جذورها البيضاء المسيحية. وهو يستوحي هذه الأفكار من عدد من المثقفين الأمريكيين المحافظين الذين يروجون لأطروحات من هذا النوع وتجد قبولا كبيرا وسط الأمريكيين البيض.

في المقام الثالث، يحاول استعادة الصناعات الأمريكية في الخارج إلى الولايات المتحدة وخاصة من الصين لخلق مناصب شغل وتعزيز الطبقة المتوسطة. وهنا دخل في مواجهة مع أكبر شركة أمريكية وهي شركة آبل بسبب استثماراتها في الصين وليس الولايات المتحدة.

في المقام الرابع، 85٪ من ناخبي دونالد ترامب لا يحبذون رئيسا قادما من الهياكل السياسية والإدارية العميقة للدولة أو ما يصطلح عليه بالإنكليزية&& Establishment& لأنهم لم يعودوا يثقون في النخبة السياسية.& وتعتبر مجلة «نيورببليك» هذا العنصر حاسما لفهم رهان الكثير من ناخبي الجمهوريين على دونالد ترامب. وما تشدد عليه المجلة يمكن تطبيقه على فهم رهان الكثير من الديمقراطيين على بيرني ساندرس لأنه يواجه ثقل المؤسسات المالية في الحياة السياسية. في الوقت ذاته، هو مفتاح لفهم رهان الكثير من الناخبين في أوروبا على سياسيين غير قادمين من& Establishment مثلما حدث في اسبانيا مع حزب بوديموس واسيودادانوس في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

هذه العناصر الأربعة، وخاصة الثلاثة الأولى تشكل عمق استياء الأمريكي وخاصة الأبيض الذي وصل إلى الولايات المتحدة منذ أجيال طويلة، حيث يعيش المجتمع الأمريكي انقساما صامتا بين مهاجري الأجيال القديمة وبين الذين يعودون إلى جيل أو جيلين. ويسود هذا الاستياء أكثر في صفوف المحاربين القدامى الذين يعدون بالملايين ووسط المزارعين الذين يعيشون في الولايات الصغيرة البيضاء وكذلك نسبة هامة من المؤسسة العسكرية.

خطاب دونالد ترامب يقوم على أسس قومية أمريكية بيضاء في المقام الأول ونسبيا تأخذ بعين الإعتبار وجود أقلية أمريكية سوداء لوجودها التاريخي منذ تأسيس الولايات المتحدة، والباقي هو دخيل يهدد التركيبة السكانية الرئيسية للبلاد. فنحن أمام العنصرية الأثنية والثقافية وليست القائمة على اللون مثلما حدث في الماضي.

وبهذا، فخطاب دونالد ترامب هو خطاب قومي أشبه بخطابات الهيئات السياسية في أوروبا مثل الجبهة الوطنية في فرنسا. ويبقى من المستحيل تبني خطاب من هذا النوع دون السقوط في الأطروحات العنصرية لأنه يحمّل «الآخر» المختلف ثقافيا وإثنيا وربما دينيا ما يفترضه من المشاكل التي تحدث في المجتمع والتي قد تتفاقم مستقبلا.

في غضون ذلك، دونالد ترامب يعتبر سياسيا من طينة الذين يستفيدون من «السياقات السياسية والاجتماعية» في لحظات معينة لتحقيق الفوز، ولهذا لا يمكن استبعاد تغيير نسبي في مواقفه السياسية كلما اقترب أكثر وأكثر من تمثيلية الحزب الجمهوري وبالتالي من الدخول إلى البيت الأبيض.

&