&أحمد الحناكي

بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، انقسمت آراء المحللين السياسيين والمفكرين والمتدينين والقوميين والإعلاميين والقانونيين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والليبراليين والمواطنين والرأي العام العالمي على مشروعية هذا الغزو ومبرراته وفوائده.

الانقسامات انعكست على العرب من الخليج إلى المحيط، وانقلبت الآية، واختلفت الصورة، فمن كان يمقت صدام وسياسته أصبح معه والعكس صحيح. ومن الطبيعي أن تبتهج فئات بالعراق ذاقت الأمرَّين من صدام ونظامه، ولسان الحال يقول ليس بالإمكان أسوأ مما كان. هل يا ترى تحقق هذا الشعور؟ لا للأسف الشديد، إلا أن صدام كان عاملاً سلبياً لا شك في ذلك، فإن ساء الوضع كما شهدنا فهو من أسباب الاحتلال، وإن تحسن الوضع بعد فلا يعني مشروعية الاستعمار. أعترف بأنني كنت آنذاك لست متشائماً حيال الاحتلال الأميركي، وجادلت كثيراً من الأصدقاء الأكثر قدرة وثقافة وخبرة، متمسكاً بالأنموذج الكبير لليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا الغربية، إلا أن كل توقعاتي الحالمة تبخرت هباء منثوراً، فالمقارنات تكون عادة تحت ظل ظروف متشابهة من جميع النواحي، وهو ما لا ينطبق على كل الدول التي ذكرنا آنفاً. لكي نحلل الوضع بدقة نسأل؛ ما هو الهدف يا ترى من الاستعمار؟ وما هي هي الدول التي كان لها باع شاسع في ذلك؟ في الماضي البعيد الفرس والروم، وتلاهم الإنكليز والفرنسيون واليابانيون والألمانيون والبرتغاليون والإيطاليون والإسبان والأتراك، وأخيراً الأميركان والسوفيات، لم أذكر الغزوات الإسلامية على اعتبار أن التفكير آنذاك كان في نشر الإسلام أكثر منه السيطرة على المكان، ولكن يجب ألا نغفل أننا كمسلمين عرب تم اعتبارنا استعماريين بالنسبة للإسبان، أو الدول التي وصل إليها المسلمون بالفتوحات العسكرية.

طبعاً، بالنسبة للكيان الغاصب فهو أبشع من استعمار واحتلال؛ لأنه يعتبر فلسطين وطنه إلى الأبد، وهذا خط أحمر بين كل من يؤمن بالقيم الإنسانية، والحقوق للفلسطينيين أصحاب الحق المنتزع منهم.

على أي حال، الاستعمار بكل أنواعه وبكل الدول التي مارسته تاريخياً، كان كتلة من الفظاعات والبشاعات والفساد المستشري، وسفك دماء الشعوب وقهرها واستنزاف ثرواتها أموالها وخيراتها وعقول أبنائها، ومن يقول إن الاستعمار له إيجابيات فهو واهم! فما هي الإيجابيات المزعومة يا ترى؟ أهي اللغة الفرنسية التي نشرها الفرنسيون في المغرب الكبير (المغرب وتونس والجزائر)؟ وماذا بعد؟ خرجوا بعد أن مزقوا دوله وزرعوا جراحاً وهوات ونعرات لا تنتهي، ومع حبنا الكبير لشعوبنا المغربية إلا أن الاستعمار لم يكتف بسلب خيراتهم قبلاً، بل وسرق عقول نوابغهم وجند شبابهم لحروبه.

ماذا عمل الإنكليز في الهند وباكستان وكشمير وبنغلاديش؟ وماذا عملوا في مصر هم أو الفرنسيون؟

عثوا بكل هذه البلدان فساداً، وكان سادتهم يسترقُّون المواطنين استرقاقاً. أما الطليان فالكل يرى ليبيا ويتذكر كفاح الشهيد عمر المختار، الذي قتله المستعمرون لأنه يدافع عن وطنه. أي مستعمر لن يحاول بأي شكل من الأشكال تطوير المستعمرات؛ لأنه يريد استنزافها ومن ثم يرحل، فهو يعلم أن الشعوب لن تصمت وإن صمتت اليوم فلن تصمت غداً، خصوصاً أن أي مستعمر مهما كانت الإنسانية التي يدعيها يعرف أن قضيته ليست عادلة، وأن هذه ليست أرضه، وأن هؤلاء ليسوا أبناء شعبه، فعلام يبذل مجهوداً لتطوير أرض أو وطن لغيره؟ عندما ذكرنا اليابان أو ألمانيا الغربية أو حتى كوريا الجنوبية (وهي من الدول المتطورة اقتصادياً وعلمياً) والبلاد الأخرى التي تعتبر الآن في مصاف الدول المكافحة، فلا يجب أن نغفل عن حقيقة مهمة هي أن الدول الثلاث الأولى كانت في موازاة أميركا، سواءً اقتصاداً كان أم علماً أم تعليماً، وما حدث هو أن الحروب التي نتج منها الاستعمار الأميركي لم تطور هذه البلدان بالقدر الذي أخرها عن المنافسة، فالكل يدرك الآن أنها تدور في محور الفلك الأميركي.

انظروا للهند مثلاً، وهي دولة تشق طريقاً أقرب للحياد بين دول العالم، وينظر إليها كنمر متحفز، وتخيلوا معي أن الاستعمار الإنكليزي لم يبقى قروناً في ساحة القارة شبه الهندية؟ ألم يكن لها فرصة في الوصول لمصاف الدول الكبرى (وهي في الطريق لذلك بالمناسبة) من دون فصلها عن الباكستان وحدودها الملتهبة مع كشمير؟ هذا ينطبق حتى على مصر، هذه الدولة الكبيرة التي مزقتها الاستعمارات المتوالية، فماذا جنت يا ترى من هذه الاستعمارات سوى استخدام أبنائها كمرتزقة في حروبهم القذرة؟

الاستعمار «غول» لا يخرج من بلد إلا بعد تدميره اقتصادياً أو ثقافياً أو اجتماعياً، وما يحدث في العراق الآن هو أحدث أنواع الاستعمار، إذ أتى الذئب الأميركي وقلب العراق إلى بؤرة للطائفية وتركه مهدداً بالتقسيمات ثم رحل - وإن بقيت قواعده وعملاؤه - والبراءة تلمع في عينيه.