هدى الحسيني
أثناء زيارته العراق الأسبوع الماضي، وعد جون كيري وزير الخارجية الأميركي بتعزيز الدعم للقوات العراقية من أجل استعادة مدينة الموصل، وأشار إلى أن العراق بحاجة إلى المزيد من الاستقرار السياسي بما يدعم العمليات العسكرية.
تجنب كيري الإشارة إلى مشكلة الميليشيات الشيعية. هي ترفض دعم التحالف الدولي، في حين أن الحكومة العراقية، والقبائل السنية، والأكراد يرحبون.
نجحت هذه الميليشيات في نشر «بروباغندا» ضد الأميركيين، فأفقدت العراقيين الثقة بهم. في شوارع بغداد يعتقدون أن الولايات المتحدة تدعم «داعش»، لا بل إنها تآمرت وأوجدت «داعش» كي تعود إلى العراق. حتى الجيش العراقي في الخطوط الأمامية لا يعترف بأنه يتلقى دعمًا من الأميركيين.
مشكلة بلاد ما بين النهرين أنها على مدى تاريخ حضارتها كانت على مفترق طرق الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية. في القرن الـ 16 أصبحت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وبعد تفكك الأخيرة بُعيد الحرب العالمية الأولى سقطت تحت السيطرة البريطانية التي رسمت حدودًا جمعت الموصل وبغداد والبصرة، أي الأكراد والسنة والشيعة، ولما عجزت بريطانيا عن تسوية حساسيات هذا الخليط أسرعت في منح الاستقلال تاركة الأوضاع متأججة. ديكتاتورية صدام حسين جمدت الأوضاع. الغزو الأميركي عام 2003 كشف عن المحظور، وما زالت الأمور متأججة. مشكلات كثيرة يعاني منها العراق الآن، خصوصًا بعد حكم نوري المالكي. هناك مشكلة النفط. 95% من صادرات العراق تعتمد على النفط. الاقتصاد تقلص العام الماضي بنسبة 2.7%. مشاريع الميزانية الأخيرة في العراق وضعت على أساس 56 دولارًا سعر برميل النفط مع حد أدنى من الإنتاج. أسعار النفط اليوم هي بنسبة 60 إلى 70 في المائة من مستوى التوقعات. ومن المتوقع أن يتجاوز العجز المالي مستوى الـ 15 في المائة، وتصل البطالة إلى 25 في المائة.
الحكومة المركزية تخطط للاقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في حين تقترض الحكومة الكردية في الشمال من تركيا.
خلال السنوات الماضية قبل تراجع أسعار النفط غرق العراق بأموال العائدات النفطية، دخله مليارات الدولارات، ليتبين الآن أن خزائنه فارغة. يقول بعض المسؤولين فيه إن أموالاً كثيرة تصرف على الحشد الشعبي الذي يكلف 300 مليون دولار سنويًا. لكن بين هؤلاء من لم يتلق راتبًا منذ أشهر، ويضطر الأهالي إلى دفن من يموت منهم في النجف داخل المساحة المجانية لدفن المقاتلين، نتيجة عجزهم عن دفع التكاليف.
الأوضاع ستزداد صعوبة، وتدخل البنك والصندوق الدوليين بـ 3 مليارات دولار له ثمن كتغيرات كثيرة لن يرضى بها العراقيون الذين يعانون.
الطبقية صارت آفة. هناك الأثرياء جدًا والفقراء جدًا. تبخرت المليارات من الدولارات، لم يكن هناك تدقيق في مصاريف الحكومة خلال العقد الماضي. الفساد منتشر. هناك وزراء في الحكومة الحالية لكل منهم «جيشه» الخاص، يستغلون أموال الوزارات التي يتولون شؤونها ويمولون ميليشياتهم مما يركز المال والسلطة في أيدي قلة.
أدى هذا إلى أزمة سياسية، فقاد مقتدى الصدر مظاهرات في المنطقة الخضراء ما أقلق النخبة السياسية. الصدر وريث عائلة شيعية مميزة، وقد يكون الأكثر تأثيرًا في العراق بعد الغزو. لم يهدد بإطاحة حكومة حيدر العبادي بل دعمه.
استوعب الصدر غضب شارعه فتقدمه. وعد بالتغيير وبتوزيع ثروة النفط، وبأن تكون السلطة للشعب. اعتقد عشرات الآلاف الذين خرجوا أنهم يبدأون ثورة، لكنها ثورة لن تحقق الكثير، فالنظام السياسي في العراق مصاب بعطب، والصدر بدأ حياته السياسية كزعيم ميليشيا، نجح في تحويل نفسه، وقد يحول نفسه مرة أخرى. أرسل أتباعه إلى المنطقة الخضراء، لكنه يُذكر دائمًا أنه إذا لم تتحقق مطالبه يمكنه أن يلجأ إلى القوة العسكرية. باختصار حاول الصدر تقديم المساعدة لحيدر عبادي باستعمال عضلاته السياسية، لكن الأغلبية في العراق لا تعتقد أن الإصلاح مقبل، وإن كان الكل يتفق على ضرورة إدخال بعض الإصلاح، ذلك أن آية الله السيستاني كان دعا إلى إصلاحات حكومية. ومن جهته انكشف عبادي بأنه لا يتمتع بالدعم السياسي، بل يتعرض للضغوط من السيستاني والصدر والمجموعة الدولية.
مع صعوبة الوضع الاقتصادي والحكومي تبرز الموصل. بغداد بمفردها لا تستطيع استعادة الموصل، القوات النظامية العراقية حتى بدعم من القبائل السنية غير كافية. من هنا أهمية التحالف الدولي.
يسود الآن تفكير يرفض تفكيك العراق، احتلال الموصل من قبل «داعش» فرض هذا التفكير الذي يقول إنه من أجل حل مشكلات الأقليات والمهمشين، فإن دولة موحدة قوية ضرورية لحماية الجميع. لكن البعض يتخوف من أنه بعد هزيمة «داعش» فإن العراق مقبل على صراع آخر بين الجيش وميليشيات الحشد الشعبي، وبأن حربًا أهلية جديدة ستشتعل، لأن هذه الميليشيات سترفض التخلي عن أسلحتها، لذلك ينادي بعض السياسيين (سليم الجبوري رئيس مجلس النواب العراقي) بضرورة وجود خطة لنزع السلاح، لأن بقاء هذه المسألة من دون حل بعد تحرير الموصل سيكون خطأ كبيرًا سيتسبب بنزاعات ضخمة، ويأخذ هؤلاء لبنان كمثل ببقاء السلاح خارج الدولة وتعطيلها بالتالي.
إذا وقع الصراع الدموي ستنتهي الدولة، لذلك يصر الكثيرون على ضرورة استباق التوقعات، وليس فقط بتسليح العراقيين لمواجهة «داعش»، فـ«داعش» خطر كبير، إنما استراتيجية ما بعد «داعش» مهمة جدًا.
لذلك يقوم البعض بالاتصال بزعماء الميليشيات حيث بعضهم على علاقة مع أعضاء في البرلمان، والطلب منهم الاستعداد لنزع السلاح والتنسيق معهم لعودة النازحين خصوصًا إلى المناطق التي هي تحت سيطرة زعماء الحشد الشعبي. لا أحد يعرف متى سيتم تحرير الموصل، إنما تجريد الميليشيات من أسلحتها، فحسب بعض السياسيين العراقيين، يجب أن يتم على الأقل بعد سنة من التحرير. في المقابل، وبالنسبة إلى ما بعد «داعش» لا يرى الكثيرون حربًا واحدة بين الجيش والحشد، بل معارك محلية كثيرة وواسعة. الآن تقع معارك بين القوات الكردية والميليشيات الشيعية، وتبدو الحكومة عاجزة عن إبقاء العراق موحدًا، وهنا تكمن المشكلة.
العراق اليوم يشبه ما كانت عليه أفغانستان الأمس أي قبل سنوات. أمراء حروب محليون، يجمعون الثروات ويقاتلون بعضهم بعضًا. وهذا ما نراه الآن في العراق. «داعش» يسيطر على جزء كبير من الغرب وشمال غربي العراق، الميليشيات الشيعية تسيطر على أراضي واسعة استردتها من «داعش» وظلت فيها مثل ديالى، حيث لها وجود مكثف، ثم هناك الأكراد في الشمال. على الورق هم غير مستقلين، إنما مستقلون في الواقع. الاقتصاد فقط يربطهم ببغداد. لهم موقعهم الخاص وأجندتهم الخاصة. طردوا «داعش» من أراضيهم، ولا يريدون القتال أكثر خصوصًا من أجل مناطق العرب.
ولأنه، رغم كثرة التصريحات، لا توجد قوات عراقية عربية كافية لاستعادة البلاد كلها، فالتفكيك قائم ومستمر وليس معروفًا كيف سيتم دحر «داعش». كان هدف الأكراد الرئيسي استرجاع كل المناطق المتنازع عليها وأبرزها كركوك. يريدون الاستقلال الكامل، لكن مسعود برزاني رئيس الإقليم الكردي يعرف الحقائق السياسية. ثم هناك انقسامات سياسية قد تتحول إلى صراعات مسلحة بين الأكراد. «حزب الاتحاد الديمقراطي» مقرب من إيران، و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» ينسق مع أميركا، وفي كردستان تأخذ المنافسة الأميركية – الإيرانية راحتها.
في كتابه «انتقام الجغرافيا» يطرح روبرت كابلان ملاحظة مهمة: طبيعة الحكم والنظام السياسي في أي مكان تحدده الجغرافيا. بعض الدول تستطيع أن تكون ديمقراطية وبعضها لا يستطيع.
العراق الذي يعاني من 3 أعراق متضاربة، وشبكة معقدة من عدم التوازن لم تتوفر له فرصة اختيار الديمقراطية. وبالتالي فإن عمق المشاعر المذهبية فيه لن تسمح له بتحقيق تسوية طويلة الأمد.
خطأ تاريخي، وتناقض جغرافي وأزمات اقتصادية مع عدم وجود مؤسسات، كلها تؤكد أن العراق يجلس على برميل بارود. فكيف هو الأمر الآن مع وجود «داعش» وميليشيات الحشد الشعبي الشيعية؟
التعليقات