&سليم نصار

بعدما سكن الحاج أمين الحسيني في فيلا محروسة قبالة «دار الصيَّاد» بمنطقة الحازمية في بيروت، كان مستشاره اميل الغوري يزوده بمعلومات يومية حول ما يجري في فلسطين. وكان اهتمام إسرائيل، خلال تلك المرحلة، منصباً على سلب أملاك الغائبين الفلسطينيين، واجتراح تشريعات تساعد على ضم العقارات لمصلحة شركات وهمية.

&ذات صباح، فوجئ الحاج أمين بخبرٍ مزعج مفاده أن إدارة أراضي اسرائيل أقدمت على مصادرة منطقة «كرم المفتي» الموجودة في حي الشيخ جرّاح، شرق القدس. وقدِّرَت في حينه الأراضي المصادرة لمصلحة جمعية «عطيرت كوهانيم» بأكثر من ثلاثين دونماً.

والثابت أن هذه الجمعية اليهودية كانت تنشط في مجال السيطرة على أملاك الفلسطينيين الغائبين بهدف «تهويد» المدينة القديمة ومحيطها.

وزير المال في ذلك الوقت ابراهام هيرشيزون، وقَّع على قرار تطبيق المصادرة بحجّة «الشراء من أجل الاحتياجات العامة». ولكنه فوجئ باعتراض «شركة الفنادق العربية» التي اشترت الأرض من مالكها السابق الشيخ أمين الحسيني، وقررت بناء فندق فوقها. لذلك التمست من المحكمة العليا إلغاء قرار المصادرة لأنه استند الى وثائق خاطئة ومضللة.

المحامي داني كيرمر، الذي يمثل حارس أملاك الغائبين، ادّعى أن الدولة تملك عشرين في المئة من «كرم المفتي» لمالكها السابق الحاج أمين الحسيني الذي تعاون مع النازيين في الحرب العالمية الثانية. وردّ عليه محامي «شركة الفنادق العربية» بالقول إن قانون مصادرة أملاك الغائبين لا يسري على هذه الأرض لأنها اشتُريَت من عائلة الحسيني قبل تطبيق القانون الإسرائيلي في شرق القدس عام 1967.

وبعد أخذٍ وردّ استمر سنوات عدة، أعلن رئيس بلدية القدس ايهود اولمرت أن هناك مشروعاً لبناء 250 وحدة سكنية فوق تلك القطعة من الأرض. وكان ذلك المشروع بمثابة المدخل لخطة بناء المستوطنات للحؤول دون قيام دولة فلسطينية متماسكة ومتكاملة.

منذ عام الهزيمة (1967) استبدل الشعب الفلسطيني كلمة المستوطنات بكلمة «المغتصبات»، لأنها بنيت ضد إرادة السكان الأصليين... ولأنها تذكرهم بالتجمعات الاستعمارية اليهودية التي أقيمت فوق الأراضي المحتلة.

وأصدرت «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» سلسلة بيانات حول هذا الموضوع تؤكد فيها أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية تعدى الأربعمئة ألف مستوطن. أما في القدس الشرقية، فقد زاد العدد على 75 ألفاً، إضافة الى عشرين ألف مستوطن في الجولان السوري المحتل.

وبسبب المتغيرات السياسية التي شملت صحراء سيناء وقطاع غزة، فتعرضت 18 مستوطنة في سيناء للتفكيك على يد آرييل شارون. وكان ذلك بعد توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979. كذلك أخليَت المستوطنات التي بنيت في قطاع غزة بموجب خطة فك الارتباط الأحادية من جانب إسرائيل. وكان عددها قد تجاوز 21 مستوطنة.

وعلى رغم إدانة 158 دولة في الجمعية العامة لهذه التجمعات الاستعمارية، فإن إسرائيل استمرت في التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان.

صدرت عن مجلس الأمن الدولي سلسلة قرارات تتهم اسرائيل بانتهاك الفقرة 49 في اتفاقية جنيف الرابعة. وتبنى المجلس للمرة الأولى في آذار (مارس) 1979 القرار الرقم 448 الذي يثبت بنص واضح أن هذه المستوطنات أقيمت في شكل غير قانوني.

كذلك أعلنت محكمة العدل الدولية أن الأحياء الإسرائيلية في القدس الشرقية والمستوطنات في مرتفعات الجولان والضفة الغربية، هي نتيجة أعمال غير قانونية يجب تفكيكها وإزالتها.

وكتب السناتور جورج ميتشل، بتكليف من البيت الأبيض، مذكرة تتألف من سبعين صفحة يؤكد فيها أن المستوطنات الإسرائيلية هي السبب الأول والأخير في عرقلة مشاريع السلام.

الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، كرر انتقاده لعدم شرعية المستوطنات كونها تتعارض مع التزامات اللجنة الرباعية، ومع قرارات المنظمة الدولية.

وعلى رغم ذلك، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كانت تموِّل بناء هذه المستوطنات، وتحمي المغتصبين من غضب الأهالي. ومن المؤكد أن انحياز البيت الأبيض، لا فرق أكان الرئيس ديموقراطياً أم جمهورياً، فإن بقي السمة الغالبة في كل العهود.

والثابت أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب لم يشذّ عن هذه القاعدة، بدليل أنه شجع رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو على مواصلة البناء في المستوطنات. وفي حديث أجرته معه صحيفة «الدايلي مايل» البريطانية، اعترف بأنه يُعارض الدعوة الى تجميد البناء كشرطٍ مُسبَق لاستئناف المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين. هذا مع العلم أن ترامب قال قبل مدة إنه سيكون محايداً في الصراع كي تكون الولايات المتحدة وسيطاً عادلاً بين الجانبين.

وعلق على «هلوسات» ترامب وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، الذي اشترك في أعمال المؤتمر الدولي الخاص بقضية القدس. وألقى المالكي كلمة في افتتاح المؤتمر في عاصمة السنغال دكار، قال فيها: «يجب أن نتذكر دائماً ما يقوم به الجنود الإسرائيليون في فلسطين وقطاع غزة. ذلك أن جرافات الاحتلال لا تتوقف عن هدم المزيد من منازل المواطنين وإقامة مستوطنات على أنقاضها، إضافة الى المعاناة الانسانية التي تقلق حياة مليون وثمانمئة ألف مواطن في قطاع غزة المحاصَر».

والصورة القاتمة التي رسمها الوزير تعبِّر عن حكم الاحتلال الطويل الذي تجاوز الستين سنة. وعلى رغم سعي السلطة الفلسطينية الى تدويل النزاع، فهي مصرّة على القيام بمحاولات دؤوبة تجبر بواسطتها حكومة نتانياهو على الإذعان للأمر الواقع. وإحدى هذه المحاولات هي ملفات الدعاوى في جرائم الحرب المرفوعة أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. خطوة أخرى تتمثل بانعقاد مؤتمر سلام دولي خلال فصل الصيف وفق المبادرة الفرنسية. ثم تحريك الخطوات الديبلوماسية في مجلس الأمن الداعية الى إقامة دولة فلسطينية. كل هذه الخطوات تثير القلق لدى الحكومة الإسرائيلية، ولكن هناك مبادرة جديدة يعمل صائب عريقات على صوغها بحيث تكون جاهزة أمام أعضاء مجلس الأمن.

والمبادرة ليست ضد الاحتلال... وليست مع إقامة دولة فلسطينية، وإنما هي ضد المستوطنات. وبما أن هذا الموضوع الحسّاس استحوذ على موافقة كل الدول المعنية، فإن هناك احتمالاً قوياً بأن يتبناه مجلس الأمن. ولقد عبَّر نتانياهو عن مخاوفه من امتناع مندوب الولايات المتحدة عن التصويت، أو عدم استخدام الفيتو.

ويسكن حالياً في الضفة نحو 2.7 مليون فلسطيني، و300 ألف آخرون يعيشون في شرق القدس. إضافة الى 160 ألف شخص يحتلون وظائف رسمية كالتعليم والصحة. وأكثر من 60 ألف موظف يحملون تصاريح عمل داخل اسرائيل.

بالمقارنة مع قطاع غزة، فإن إسرائيل تحاول إرضاء فلسطينيي الضفة من طريق تخفيف حدّة البطالة. وهي تركز على محاصرة القطاع بتقنين المنتجات المسموح إدخالها. وهناك أربعة آلاف صنف على قائمة الممنوعات، ما عدا ثلاثة أصناف هي: الأغذية والأدوية ومواد التنظيف.

يقول شيمون بيريز إن المقاومة العنيدة التي يُظهرها أهل القطاع تحت حكم «حماس»، تحجب أخطار الاكتظاظ السكاني الذي يجعل من غزة قنبلة بشرية موقوتة. ومنذ تطبيق فك الارتباط، إزداد عدد السكان 600 ألف نسمة ليصل العدد الإجمالي الى 1.8 مليون شخص يعيشون في مساحة لا تتعدى 365 كيلومتراً مربعاً. ووفق تقرير الأمم المتحدة، فإن عدد سكان قطاع غزة خلال السنوات الأربع المقبلة سيصبح 2.3 مليون.

في هذا الجو الخانق، عادت عمليات حفر الأنفاق الى الظهور بهدف تهريب البضائع الممنوعة. ويبدو أن مصالحة جدية قد تمت في آذار (مارس) الماضي، بين حركة «حماس» والاستخبارات المصرية بإشراف محمود الزهار. وكانت القاهرة قد اتهمت «حماس» بقتل المدّعي العام المصري هشام بركات، الأمر الذي نفاه المتحدث باسم الحركة سامي أبو زهري.

ويُستدَل من المعلومات الصادرة عن القاهرة أن «حماس» قدمت الى الحكومة المصرية وثائق تثبت أنها قطعت كل صلة بـ «الإخوان المسلمين». وعُلِم مؤخراً أن الحركة أبلغت مصر بانفصالها عن العلاقة مع ايران، وانضمامها في شكل نهائي الى الحضن العربي.

ويرى المراقبون أن مثل هذا التحوّل يعطي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هامشاً من التأثير على اسرائيل التي تهدد بالانتقام في أعقاب الكشف عن نفق حفره عناصر «حماس» داخل سيناء.

لهذا السبب أعاد تنظيم «داعش» تنظيم صفوفه في سيناء، خصوصاً بعد تلقيه ضربات جوية قوية من سلاح الجو المصري. وكان ذلك بمثابة ردّ إنتقامي لاغتيال ثلاثة ضباط و18 جندياً في حاجزَيْن قرب العريش.

ويعترف قائد العمليات في الجيش المصري أنه رصد تحركات مشبوهة لتنظيم «داعش»، كان الغرض منها توسيع نشاطه من طريق ضم عناصر «القاعدة» والحركات السلفية الجهادية.

إضافة الى هذه القوى، فإن «داعش» مهتم باستمالة بدو الصحراء، كونهم يقدمون البنية اللوجستية المطلوبة للقتال في سيناء.

وترى قيادة «حماس» أن إبعاد «داعش» عن قبائل سيناء يمكن أن يخفف الضغوط عن الجيش المصري المستنفر. كما يفتح المجال أمام الإدارة المحلية في غزة كي تطالب القاهرة بفتح «معبر رفح» وإعادة تشغيل الميناء...