كمال بالهادي
&
رغم التصريحات الإعلامية من الطرفين، الجزائري و الفرنسي التي تحاول إشاعة أجواء من التفاهم بين العاصمتين، إلاّ أن المراقبين يدركون، أن التيار بين باريس وعاصمة الشهداء، لا يمر بالطريقة التي تجعل البلدين يتجاوزان خلافات الماضي الاستعماري، الذي خلف نحو المليون ونصف المليون شهيد. ففي كل مرة تصدر تصريحات عن كبار المسؤولين الفرنسيين، تعمق الجراح وتعيد التوتر إلى أقصى درجاته.
&
في السنة الماضية زار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي تونس، ومنها أطلق تصريحات معادية للجزائر، وبعد سنة تقريباً، أعاد ساركوزي التدخل في الشأن الجزائري بالحديث تصريحاً و تلميحاً عن المستقبل الجزائري «المجهول»، وذهب إلى أكثر من ذلك، إذ اعتبر الجزائر خطراً يهدد أوروبا في المستقبل القريب. لا تنفصل تصريحات ساركوزي عن تصريحات المنظر و عراب ما يسمى بالربيع العربي، المتصهين برنار هنري ليفي، و الذي يعتبر الأب الروحي لساركوزي. فليفي، كان قد دعا فرنسا إلى دعم طموحات ما يسميها بطموحات الشعب «القبائلي» في الجزائر، من أجل نيل استقلاله. و لم يخرج رئيس الحكومة الفرنسية على القاعدة، بعد أن نشر صورة للرئيس الجزائري وهو في وضع صحي صعب، رأى فيها أبناء الجزائر، خبثاً سياسياً يهدف إلى الإساءة إلى صورة الجزائر كدولة قوية. ورغم التبريرات التي قدمها مانويل فالس، وتأكيده على أنه لم يقصد الإساءة إلى الجزائر سلطة وشعباً، إلا أن الصورة التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي قد حققت هدف الإهانة.
&
المسؤولون الفرنسيون، يحاولون الدفاع عن مواقفهم تجاه الجزائر بالقول، إن الجزائر هي امتداد استراتيجي لفرنسا، وهي شريك اقتصادي، مهم لباريس في الحوض المتوسطي. فقد دافع السفير الفرنسي في الجزائر عن العلاقات الوثيقة بين البلدين، وقال إنهما يرتبطان بشراكات اقتصادية مهمة، هي أعمق بكثير من الخلافات السياسية. لكن المتابع لمسار هذه العلاقات، يمكن أن يفهم سبب مثل هذه التصريحات المعادية تجاه الجزائر.
&
بالنسبة لبرنار ليفي، عراب الخراب العربي، فإنه لن يهدأ له بال حتى يرى الجزائر في وضع شبيه، بما آلت إليه ليبيا وسوريا والعراق واليمن. فهو من اليمين المتطرف، الذي يحلم بخراب الوطن العربي. أما بالنسبة لساركوزي، فإنه يتبع فكرياً و نظرياً ليفي، ولا يمكنه الخروج عن أفق تفكير عراب الخراب، من حيث المرجعيات الفكرية، والنهج السياسي. وقد كان ساركوزي، قد اعترف بأن تخطيطه للتدخل العسكري في ليبيا في عام 2011، كان بدفع من ليفي. لكن المسألة أعقد بالنسبة، لساركوزي، إذ تتدخل العوامل الاقتصادية مع المرجعية اليمينية المتطرفة. فمعلوم أن من بين أسباب حماسة ساركوزي للتدخل في ليبيا، هي مسألة المصالح الاقتصادية لشركة النفط العملاقة «توتال». وإذا عرفنا أن الجزائر، تتهم على لسان وزير الطاقة الجزائري الأسبق شكيب خليل، شركة توتال الفرنسية بالتحايل على الجزائريين، وعدم احترامها لعقود الاستثمار الموقعة منذ عام 2009. ويؤكد خليل أن الشركة الفرنسية وعلى خلاف نظيراتها الأوروبية، لا تعلن عن أرباحها الحقيقية، خاصة في فترة الطفرة النفطية، وهو ما يجعلها متهمة، بنهب الثروات الجزائرية. وربما كانت الحملات الإعلامية للرئيس الفرنسي السابق، هي نوع من الضغوط على الحكومة الجزائرية، لإغلاق ملف شركة وتوتال وربما كان تأجيل تنفيذ المشروع الضخم لشركة بيجو للسيارات المرتبطة ارتباطاً عضوياً بتوتال، هو خطوة في اتجاه سياسة لي الذراع بين باريس والجزائر. ولكن المسألة الاقتصادية تتجاوز دون شكّ حدود الشركة الفرنسية. فالمسألة تتعلق بتنافس شديد على الجزائر، بين القوى الكبرى وهي أساسا مجموعة البريكس من جهة ممثلة في روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى.
&
ومن هذا المنطلق فإن دخول لاعبين جدد إلى الساحة الجزائرية، هو نوع من سحب البساط من النفوذ الفرنسي الذي يمتد إلى نحو قرنين من الجزائر. وتدرك باريس أن الجزائر اليوم ليست بالدولة الضعيفة، فهي تملك خيارات كثيرة للمناورة، وللاستفادة من التنافس الدولي على الشراكة معها، وهي قادرة على التحرر من «الهيمنة الفرنسية»، في إطار لعبة العلاقات الدولية المعقدة. وربما تكون هذه القوة المعنوية الجزائرية، هي التي تدفع المسؤولين الفرنسيين في كل مرة، إلى فقد الضوابط الدبلوماسية، والخروج عن «اللياقة» في التعامل مع دولة هي من أقوى دول حوض المتوسط.
&
ساركوزي، الذي استقبل في عام 2007 استقبالاً كبيراً في العاصمة الجزائر عندما كان سيد الإليزيه، سيجد صعوبة كبرى في ترميم علاقاته مع بلد المليون و نصف المليون شهيد. و إذا اختار ساركوزي السير في ركاب ليفي، واختار السير في ذات الطريق التي قادته إلى تخريب ليبيا، فإنه سيواجه شعباً من الجبارين، وسيعرف حقيقة ربما لم تخطر له على بال وهي أن الجزائر ليست ليبيا، وأن دول حوض جنوب المتوسط لا يمكن أن تعود للخضوع لقوة الهيمنة الفرنسية. وعلى فرنسا أن تفهم أن العالم تغيّر، وأن الجزائر ليست حديقتها الخلفية.