&سليم نصار
بين عشرات المراكب التي انطلق بها المؤيدون والمعارضون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قبالة مبنى البرلمان، كان هناك زورق مطاطي أحمر اللون يحمل النائب العمالية جو كوكس مع زوجها وولديهما. وكانت جو تحمل علماً أبيض اللون يتوسطه الحرفان «IN»، متحدية بذلك كل المراكب الأخرى التي حملت زعماء المطالبين بخروج البلاد من الاتحاد مثل بوريس جونسون ونايجل فاراج.
وكان من الطبيعي أن تنقل شبكات التلفزيون هذا المشهد المعبِّر، الذي أبصره توماس ماير، وهو قابع في شقته المتواضعة في «بيرستال» القريبة من ليدز. وبما أنه من المتحمسين جداً لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، لذلك قرر اغتيالها منعاً لتأثير موقفها على أبناء دائرتها في منطقة بيرستال، شمال إنكلترا.
ذكرت الصحف أن كوكس هي أول نائب بريطانية يتم اغتيالها منذ سنة 1990، أي منذ اغتيال النائب ايان غو بأيدي مسلحي الجيش الجمهوري الايرلندي. والثابت أنها تعرضت لسلسلة مضايقات من خلال رسائل المعارضين لنهجها. وكانت الشرطة قد اقترحت زيادة الإجراءات الأمنية لها. ولكنها اعتذرت عن عدم قبول الحراسة، لأن ذلك يلغي اتصالاتها المباشرة مع الجمهور.
فور اعتقال القاتل توماس ماير، قرب مسرح الجريمة، راح يصرخ بأعلى صوته: «بريطانيا أولاً. والموت للخونة». وأوضح المسؤول عن التحقيق أن اتهامات عدة وُجِّهَت الى ماير، من بينها القتل المتعمَّد، وحيازة سلاح ناري، والتآمر على نظام الحكم. وتبيَّن من مراجعة سجله السابق أنه كان على صلة بجماعات اليمين المتطرف، وأعضاء التيار القومي الأبيض.
وذكرت صحيفة «الغارديان» أن القاتل ماير كان من أنصار منظمة النازيين الجدد في الولايات المتحدة. وقد عثرت الشرطة على رموز نازية وكتب لليمين المتطرف في منزله. كما عثرت على منشورات يعود تاريخها الى سنة 2011، تحمل عنوان «التحالف الوطني» الذي يدعو الى منع تدفق المسلمين الى بريطانيا. وتشير تحقيقات الاستخبارات الى أن القاتل كان ينتمي الى ميليشيا «الدوريات المسيحية» التي هاجمت بعض المساجد في لندن وبرمنغهام ومانشستر. وقد صادرت أيضاً منشورات عنصرية تمجِّد الجنس الأبيض، وتطالب بعودة سياسة نظام الفصل العنصري الى جنوب افريقيا.
هذه الخلفية السياسية المعقدة التي ساهمت في صنع شخصية القاتل ماير كانت نتيجة فكر متمرد حاقد. ثم جاءت النائب جو كوكس، بخطبها في البرلمان، لتحرك مشاعره الدفينة، خصوصاً عندما أظهرت تعاطفها مع المهجرين السوريين. وكانت تطالب باحتضانهم لأن التنوع البشري، في نظرها، يُغني المجتمع البريطاني. ولم تتوقف نشاطاتها عند هذا الحد، وإنما سافرت الى اوغندا وأفغانستان ودارفور حيث اهتمت بالمشردين والمخطوفين. وقبل أن تُنتَخَب ممثلة عن منطقة «باتلي وسبان» قادت حملة إنسانية لمصلحة الجمعية الخيرية «أوكسفام».
والملفت في هذه الحادثة الفريدة أن هيلين جوان كوكس (هذا هو اسمها الحقيقي) قُتِلت في الشهر الذي وُلِدَت فيه، أي قبل أسبوع من عيد ميلادها المصادف 22 حزيران (يونيو) 1974. ولقد حذرت المستشارة الألمانية انغيلا مركل من نتائج المعركة التي خاضها الشعب البريطاني بحدّة وشراسة غير مألوفتَيْن.
واعتبرت مركل - التي شجعت التيار المطالب بالبقاء داخل الاتحاد - أنه من الضروري عدم تقليد موجة التطرف التي اندفعت من الشرق الأوسط لتهدد المجتمعات الغربية. وفي رأيها أن هذا الأمر لن يتحقق من دون احترام الذين يفكرون في شكل مختلف... ويؤمنون في شكل مختلف... ويحبون في شكل مختلف!
وهي بهذا التنبيه كانت تعرف جيداً مدى خطورة قرار فك الارتباط بين المملكة المتحدة والقاطرة الاوروبية. كما تعرف أيضاً أن مثل هذا القرار قد ينهي الحياة السياسية لحزب المحافظين الذي يقوده ديفيد كامرون. كما ينهي في الوقت ذاته الاتحاد الأوروبي برمته.
كيف؟
المخاوف التي أعربت عنها مركل تتمثل في الوضع الجديد الذي سينشأ بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وهو وضع هشّ يتعلق بضرورة رسم حدود جديدة للمملكة، خصوصاً الحدود المتجهة شمالاً نحو اسكتلندا. أي الموقع الذي يسكن فيه ما نسبته عشرة في المئة من شعب بريطانيا. ولقد نعمت هذه القطعة بالاستقرار وبحكم ذاتي منذ سنة 1999. علماً أن الحزب الوطني الاسكتلندي ما زال المحرك السياسي لتلك البلاد، ولو أنه خسر معركة الاستفتاء على الاستقلال سنة 2014.
الوقائع تشير الى أن الغالبية في اسكتلندا صوتت الى جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي. والسؤال الذي يمكن أن يطرحه ذلك يتعلق باحتمال انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، وبتداعيات هذا التغيير على بنية النظام القائم، وعلى مستقبل مقاطعتي ويلز وايرلندا الشمالية!
المشكلة الأكثر إلحاحاً وخطورة بالنسبة لبوريس جونسون، ورفاقه المطالبين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، هي مشكلة المهاجرين الذين تتنامى أعدادهم سنة بعد سنة. ولقد تبيّن في النقاش العلني الذي نظمته محطة تلفزيون «بي بي سي» مساء الثلثاء الماضي، أن موضوع المهاجرين كان يمثل «كعب أخيل» بالنسبة إلى حزبي المحافظين والعمال.
ومع أن صديق خان، عمدة لندن الجديد، استخدم في المؤتمر ضد سلفه جونسون كل العبارات النابية بحيث اتهمه بالكذب والتلفيق... إلا أن كل ذلك لم يبدل من موقف الأنصار الذين يعيشون على وقع كلمات شكسبير القائل بأن «انكلترا هي جزيرة بحجم امبراطورية... وبأنها قلعة حصينة بنتها الطبيعة».
ومن المؤكد أن حملات الترويج لإحياء دور صنعته الملكة فيكتوريا، واستمر في استعمار ربع شعوب ذلك الزمان حتى مطلع القرن العشرين... هذا الدور لا يمكن تكراره في زمن العولمة وتدفق المهاجرين الى اوروبا.
يدّعي أنصار المغادرة أن بريطانيا تستقبل ربع مليون مهاجر ينتقلون اليها عبر الاتحاد الاوروبي. كما يدّعون بأن حكومة ديفيد كامرون ترسل كل أسبوع الى الاتحاد ما قيمته 350 مليون جنيه استرليني. وهو مبلغ كافٍ لبناء مستشفى كل أسبوع.
الأسبوع الماضي، أصدر البنك المركزي البريطاني تحذيراً يؤكد فيه أن الخروج من الاتحاد سيُلحِق ضرراً بالاقتصاد العالمي، ويؤدي الى تزايد احتمالات استمرار هبوط الجنيه الاسترليني.
وأدت مخاوف الاستفتاء الى تحويل بلايين الدولارات من أسواق الأسهم العالمية. لذلك اضطر البنك المركزي السويسري الى التدخل لمنع هبوط الفرنك السويسري، خوفاً من حدوث اضطرابات في الأسواق. والسبب أنه في أوقات اضطرابات الأسواق، يلجأ المستثمرون الى الفرنك السويسري كملاذ آمن ومضمون، الأمر الذي يعزز قوة العملة.
مطلع هذا الأسبوع نشر الفريق المطالِب بالانسحاب من الشراكة مع 27 دولة توقعاته باحتمال حدوث تصدّع في بنية المملكة المتحدة، هذا بعضه:
أولاً - يقدم رئيس الوزراء ديفيد كامرون استقالته، على أن يحلّ في منصبه منافسه بوريس جونسون.
ثانياً - تنظم اسكتلندا استفتاء جديداً حول الاستقلال عن المملكة المتحدة. وهذا ما تفعله ايرلندا الشمالية، بحيث تعود للانضمام الى جارتها الجنوبية، العضو في الاتحاد.
ثالثاً - من الطبيعي أن يؤدي كل ذلك الى هبوط سعر الجنيه الاسترليني بنسبة تصل الى 20 في المئة. ومن المؤكد أنه في السنة المقبلة سيتم نقل آلاف الموظفين من حي المال والأعمال في «السيتي»، الى مركزَيْ فرانكفورت وباريس.
من أجل منع حدوث هذا السيناريو، تجرأ صاحب فكرة الاستفتاء ديفيد كامرون على استعارة دور ونستون تشرشل، متحدياً به منافسه جونسون. وقال أن ذلك التحدّي التاريخي حقق الانتصار للبلاد ولكل العالم الحر، تماماً مثلما سيحقق هو الانتصار على مؤيدي هتلر.
ولكن كامرون نسي أن يذكر أن «الهتلريين» الذين يعنيهم ينشطون ضده من داخل الحدود، وليس من خارجها... وأنه بالفعل من بيت أبيه قد ضُرِب.
وعلى الموجة ذاتها، ردّ عليه بوريس جونسون ليصفه بأنه يمثل دور نافيل تشمبرلن وليس دور تشرشل. أي دور المبعوث الذي خدعه الفوهرر عندما زوّده بوثيقة سلام لم يحترم نصوصها زعيم الرايخ الثالث.
الكل يعرف أنه في عهد مرغريت ثاتشر (المرأة الحديدية) تمّ تدشين خط قطارات «اليوروستار» الذي يربط بريطانيا بأوروبا عبر فرنسا، سنة 1994. ومع أن الرئيس الفرنسي في حينه فرانسوا ميتران تظاهر بالفرح أثناء حفلة التدشين، إلا أنه أعرب للملكة اليزابيث الثانية عن استغرابه لتسمية محطة الانطلاق من لندن بـ «محطة واترلو»، أي اسم المعركة التي خسر فيها نابليون الحرب أمام دوق ولنغتون.
ربما كانت تلك التسمية موجودة من قبل لذلك الموقع. ولكن استغلال أمجاد الماضي أصبح هاجساً وكابوساً لكل الطامحين الى الانتصار في معركة المصير حول خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، أو بقائها فيه. وكان بوريس جونسون في طليعة المراهنين والمحرّضين على ضرورة الانسحاب من الاتحاد الاوروبي. علماً أنه كتب قبل ثماني سنوات كتاباً خلاصته أن هذا الاتحاد يمثل نسخة عصرية من «باكس رومانا»، الذي من دونه لن تسلم اوروبا. ولما لاحت له فرصة الانقضاض على صديقه ديفيد كامرون، لم يتردد لحظة واحدة في غرس خنجر في خاصرته.
في نهاية الأمر، وصف لي أحد الزملاء نتيجة الخيارَيْن بأن «البقاء» هو بمثابة «هزة أرضية» بينما «الخروج» هو أشبه بـ «زلزال».
وفي الحالَيْن، بقي الثمن الذي قبضه كامرون لتجديد ولايته، خطأ تاريخياً يصعب ترميم تداعياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية!
التعليقات