&عبدالله موسى الطاير

تكرر قتل الأقارب باسم الإسلام؛ وآخرها حادثة حي الحمراء بالرياض التي اهتز لها كيان المجتمع السعودي والضمير الإنساني. وبعد كل حادثة ندير الأسطوانة ذاتها؛ فينفي نفر علاقة الإسلام بها، ويصّر آخرون على أن للتطرف والإرهاب قدماً راسخة في مدارسنا ومناهجنا ومساجدنا وثقافتنا عموما! فأما من يقول بأن الإسلام بريء فله تفسيراته المنطقية، وأدلته التي يراها قطعية، ومن يذهب إلى اتهام الإسلام يستشهد بأدلة من كتب الفقهاء والمؤرخين وحوادث عديدة في تراثنا الإسلامي.

اعتقادي الراسخ أن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بريء من الإرهاب؛ وأي اجتهادات سلكت به مسلكا غير سوي إنما تمثل رأيا بشريا غير معصوم من الزلل. أما الذين يحمّلون الإسلام وزر الكراهية والتطرف والإرهاب فإنما يستدلون بنصوص قرآنية كقوله تعالى: (واقْتلوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتموهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ... الآية)، و: (.. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُم السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). و(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ... الآية)، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، و(لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ... الآية). هذه الآيات لها أسباب نزول، ولها تأويلات. وقد بعث الدواعش الحياة للتأويل الذي يناسبهم على أنه شريعة إسلامية قولا واحدا.

فهم ابن جرير الطبري، والشافعي، والقرطبي والحافظ بن كثير وابن تيمية والشوكاني في السيل الجرار، وعبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في الدرر السنية وغيرهم، تجيز قتل الكافر وفصلوا في ذلك وفرقوا بين أنواع الكفرة دون أن يتفقوا على تعريف الكافر، وما إذا كان أهل الكتاب كفرة.

بعض المفسرين والفقهاء يرون أن الحب والكره في الله أصل من أصول الإيمان، وبذلك فإن من يحكم على والديه أو مجتمعه بالردة يبذل لهم العداء تقربا إلى الله دون النظر إلى تعارض ذلك مع زواج المسلم من كتابية، فهل له أن يتزوجها بدون محبة قلبية؟ ثم إن الشرع يلزمه بأخذها للكنيسة متى شاءت؛ فهل غفل الشارع عن دين الزوجة ومن يغشى الكنيسة؟ أما قتل الأقارب الكفار أو المرتدين في الإسلام فيكاد يتوقف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عند حدود معركة بدر، وظرف المعركة مغاير تماما لظروف قتلة داعش.

أبو بكر الصديق حارب المرتدين في اليمامة، ولكنه لم يحارب آخرين، وعمر بن الخطاب كتب العهدة العمرية لأهل القدس وهي ميثاق شرف إنساني، وله موقف (إن صح) من جبلة بن الأيهم الذي ارتد أمامه وتركه يذهب في حال سبيله، وهو رد على من يكفرون أهليهم ثم يقتلونهم.

نوازل هذا العصر تتطلب مراجعة شرعية وفق كليات الدين العظيمة مما قال به رسول الله أو عمل به أو أقره. كما تتطلب -قطعا للطريق على المغرضين- جمع الآيات والأقوال السابقة إلى أخرى مغايرة في المقاصد من أمثال قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، و(لا يَنْهَاكُم اللَّه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيَارِكمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِب المُقْسِطِينَ)، و(.. من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، و(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، و(لكم دينكم ولي دين)، و(لا إكراه في الدين).

الاختلاف، والتنوع ثم التعارف والتعايش وعمارة الأرض من نواميس الله في الكون، فهل من عدل الله أن يخلقنا على هذا الاختلاف والتنوع ليقتل بعضنا بعضا؟

ولنا أن نسأل: من حرف الدين من الرحمة إلى العذاب، ومن اليسر إلى العسر، ومن أفسد علينا جمال ديننا وإنسانيته؟ ومتى؟ ولماذا؟ وكيف؟

أسئلة تتطلب جرأة في الطرح وعمقا في النقاش. الإرهاب يستهدف أقدس ما نملك، وهو الدين، مستخدما أغلى ما لدينا، وهم أبناؤنا. فمن المستفيد من هذا العبث؟ وما هي أدواته في تفخيخ عقول شباب المسلمين؟ ومن هم وكلاؤه في شبكات التواصل الاجتماعي؟ ومن هم المحرضون والدعاة له؟

وبغض النظر عن حقيقة التنظيمات الإرهابية التي تدعي الإسلام، فإننا أمام مأزق يتعلق بمكانة الدين في قلوب أبنائه وبخاصة الناشئة، وصورته في الخارج عند المنصفين من غير المسلمين. فكيف يمكن لعلماء المسلمين أن يطهروا الدين من رجس الإرهاب والإرهابيين؟

علماء الشريعة اليوم أعظم حظا ممن سبقهم؛ فالمعلومات المتاحة تفوق في تنوع مصادرها وشمولها ما كان تحت نظر علماء في بغداد يحتاجون سنوات لزيارة عواصم العلم في شرق الأرض وغربها، وشمالها وجنوبها للظفر بنزر يسير مما تكتنزه أوعية المعلومات اليوم. نحتاج وقفة حازمة للرد على الشبهات وتنقية التاريخ وترشيد الإحالة على ما سبق؛ فلعلماء العصور الماضية ظروفهم وشروط البيئة والأحداث التي شكلت رأيهم. وأظن أن الاجتهاد المعاصر سيجدد خطابنا الديني دون تمييع أو شطط.

ليس من أجل داعش ينبغي التجديد، وإعادة قراءة الموروث، وإنما لتأكيد ثقة الجيل المسلم في دينه، وكسر حواجز الخوف بيننا وبين شركائنا في عمارة هذا الكون. داعش تستنبط من موروثنا الإسلامي ما تزعزع به إيمان المسلمين بدينهم، وتكره الآخرين فيه بينما نواصل تقديس اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ في فهمها للدين. فهل هناك مانع شرعي من العودة إلى المحجة البيضاء -كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-، والتمسك بهما؟

إن توظيف منهج متعدد الأبعاد في دراسة الظاهرة وفهمها يتطلب إضافة إلى تجديد خطابنا الديني تفسيرا علميا لما يحدث. وهي مسؤولية مراكز البحث والدراسة التي بدون شك تتطلع إلى تداول المعلومات بين المنظمات الحكومية والبحثية بكفاءة وثقة.