&علا عباس&

يبدو أن السياسة التركية تمر بفترة عدم توازن، لكن في العمق، كان الجميع يدرك أنها مرحلة مؤقتة

&لسنوات طويلة ـ امتدت لأكثر من عقد ـ مارست تركيا بدقة وبأمانة نظريتها السياسية التي تتلخص في كلمتين: (صفر مشاكل)، واستطاعت خلال هذه السنوات أن تبني جسور علاقات متينة مع كل الدول المجاورة لها، ومع كثير من دول العالم الأخرى، واستطاعت نتيجة لذلك أن تحقق نمواً لافتاً لاقتصادها وسياحتها وصادراتها، واستطاعت كذلك أن تبدأ بلعب دور الدولة الوسيطة بين الأعداء، وأن تبدأ بممارسة الدور الذي رغبته عبر التاريخ، وهو نقطة الربط بين الشرق والغرب، فالموقع الجغرافي لتركيا يجعلها تلعب هذا الدور بشكل طبيعي، وسياستها بمد يد التعاون والصداقة للجميع، بدأت تعطي ثمارها، وبدأت تحقق في السياسة ما منحتها إياه الجغرافيا.

خلال العامين أو الثلاثة الأخيرة تخلخلت هذه الإستراتيجية، ودخلت تركيا في صراعات ونزاعات من أنواع مختلفة، فساءت علاقتها بإسرائيل بسبب حصار غزة، ثم ببضع دول أوروبية بسبب عودة قضية المذابح الأرمنية إلى الواجهة الدولية من بوابة البرلمانات الأوروبية، وإصدار قوانين تخص هذه المذابح، ثم ـ وهنا يقبع الحجر الكبيرـ بدأت علاقاتها العربية والإقليمية تتفجر مع بداية الربيع العربي، فساءت علاقتها بمصر بعد عزل مرسي، وبإيران على خلفية الأحداث في سورية والموقف من نظام بشار الأسد، وبالتالي مع العراق الذي تديره حكومة حليفة لإيران، وبالطبع كان للأحداث في سورية الدور الرئيسي في كثير من التداعيات اللاحقة، فسورية كانت البوابة العربية لتركيا بحكم الجغرافيا وبحكم التحالف المتين الذي بدأ في مطلع الألفية واستمر حتى منتصف 2011، أي بعد قيام الثورة السورية ببضعة أشهر، حيث اختارت في الفترة الأولى أن تحافظ على صداقتها مع نظام بشار الأسد، ولم تفقد الأمل منه، وحاولت مساعدته على الوصول إلى حل سياسي، ولما يئست منه ومن حلوله العسكرية والأمنية، اختارت الذهاب إلى الطرف الآخر، ودعمت الثورة والمعارضة السورية.

وقد أخذ هذا الدعم أشكالاً مختلفة منها السياسي، ومنها الإنساني، حيث استقبلت ملايين اللاجئين السوريين وتعاملت معهم بطريقة لا تشابهها دولة من دول الجوار، ومنها العسكري، وهذا الشكل الأخير أدى إلى اصطدامات أخرى مع الدول الأخرى الداعمة للمعارضة السورية، لاختلاف الرؤى والتوجهات، ونتج عن ذلك اختلال في التنسيق، ثم قطع شبه كامل بين المعارضة السورية في شمال سورية وجنوبها، بحسب الفارق بين مركز الثقل التركي ومركز الثقل الخليجي.

تأثرت تجارة تركيا مع المنطقة العربية تأثراً كبيراً بسبب الأحداث في سورية والعراق، وتأثرت بعض الاتجاهات الأخرى بسبب مشاكلها مع الروس والإيرانيين، حتى تفاقمت مشاكلها مع روسيا بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية، والتي وصلت إلى حد القطيعة الكاملة.

كانت فترة عصيبة على تركيا، وكان يبدو أن السياسة التركية تمر بفترة عدم توازن، لكن في العمق، كان الجميع يدرك أنها مرحلة مؤقتة، وأن دولة اختارت لنفسها إستراتيجية تصفير المشاكل، وحصلت مقابلها على مكاسب اقتصادية وسياسية كبيرة، وتحسنت جميع مؤشراتها الاقتصادية، وارتفع دخل أفرادها ثلاثة أضعاف، وصارت قوة محسوبة في الاقتصاد العالمي، ودولة جاذبة للسياحة ومصدرة للمنتجات الزراعية والصناعية، هذه الدولة لن تسطيع التخلي عن ذلك بسهولة، وستكون القوى المجتمعية والاقتصادية والسياسية عوامل ضغط للعودة إلى السياسة الصفرية، واستعادة النجاح الذي حققته بالتعب والجهد، وبالفعل ففي الفترة الأخيرة تعرضت تركيا لهزات سياسية داخلية، بدءاً من نتائج الانتخابات الأخيرة، ثم العواصف داخل حزب العدالة والتنمية، والخلاف بين الرأسين الكبيرين إردوغان وأوغلو، كل ذلك، أدى إلى التوقف ثم البدء بمسار سياسي قديم متجدد، وبدأت تركيا بإعادة الحياة إلى علاقاتها الإقليمية والدولية، فبادرت باتجاه إسرائيل، ثم باتجاه روسيا، وكانت مستعدة لفعل أي شيء لترمم هذه العلاقات، فاعتذرت عن إسقاط الطائرة الروسية، وهو ما كانت ترفضه لأشهر، وتغاضت عن اعتذار إسرائيل عن استهداف السفينة التركية، وهو ما كانت تطالب به لسنوات، لم تتمسك كثيرا بمطلبها الصلب بفك الحصار عن غزة.

كانت دولة تمر بمرحلة العض على الشفة، تغالب نفسها ورغباتها لتستعيد ما يريده شعبها، وبدا واضحاً أن تركيا قد أمسكت من جديد بهذا الطريق.

في هذا المناخ، جاءت حادثة مطار أتاتورك ـ وهي التفجيرات الخامسة التي تشهدها تركيا هذا العام - لتقول (أي التفجيرات) إن هناك أحدا ما لا يريد لتركيا أن تعود للعب دورها، وفي الجواب على هذا السؤال تكمن الكثير من الحقائق.