& نعمت أبو الصوف

على ما يبدو أن موجة التقلبات في أسعار النفط ستستمر لبعض الوقت، حيث إن الأسواق ما زالت تقيم فيما إذا العرض في تحول من فائض إلى نقص. وبالنظر إلى الأمام، نلاحظ أن الأسواق تحت تأثير عاملين: الضغوط على المدى الطويل لمزيد من الاستثمارات في العرض، والصدمات على المدى القصير من الاضطرابات الجيوسياسية. كلا المحركين لديه القدرة على وضع ضغوط تصاعدية على أسعار النفط، ولكن هذه الضغوط يمكن أن تخفف أيضا بعوامل مثل؛ فائض المخزون المستمر، احتمال ضعف النمو الاقتصادي والطلب على النفط، ناهيك عن الشكوك المحيطة بإنتاج النفط الصخري في المستقبل. الكثير من التقلبات والمنعطفات تنتظر الأسواق، ولكن وجهة نظر الأسواق "أسعار أقل لفترة أطول" التي سادت على مدى العام أو العامين الماضيين تتحول الآن.

الاعتقاد السائد في الصناعة النفطية الآن هو أن الأسواق تتحرك أخيرا مرة أخرى إلى التوازن، ولكن الضغوط الهبوطية باقية بشكل عام: المخزونات مرتفعة للغاية، الاقتصاد العالمي لا يزال هشا، والعرض لا يزال من الممكن أن يحمل مفاجآت. على المدى الطويل، عدم الاستثمار في مشاريع جديدة يهدد بحدوث نقص في العرض في المدى المتوسط، من المحتمل أن يصل إلى أكثر من 2.0 مليون برميل يوميا بحلول عام 2020.

ولكن وراء هذه النظرة المبسطة إلى حد ما، أسواق النفط لديها الكثير من عدم اليقين. يجب أن تبدأ الأسواق بإرسال إشارات للاستثمار في الطاقات الإنتاجية على المدى الطويل، دون أن تعرف كيف سيكون رد فعل النفط الصخري في الولايات المتحدة، ماذا تخطط "أوبك"، أو كيف ستؤثر سياسات المناخ في نمو الطلب، وهذه مجرد أمثلة قليلة من المجاهيل الرئيسة. في ظل أسواق أكثر إحكاما، ستكون أسعار النفط أكثر حساسية للاضطرابات المفاجئة وغير المتوقعة على المدى القريب. كل من هذه القوى ــــ الطويلة والقصيرة الأجل ــــ تشير بصورة عامة إلى الاتجاه الصعودي نفسه، ولكن مع كثير من نطاقات التقلبات والانتكاسات.

أسواق العقود الآجلة ـــ التي غالبا ما يدعمها تحسن المعنويات ـــ بدأت تظهر بوادر هذا التحول في التفكير. موجة الانقطاعات الأخيرة في الإمدادات من نيجيريا، كندا، ليبيا وغيرها، التي بلغت في ذروتها أكثر من ثلاثة ملايين برميل في اليوم، أعطت دفعة لأسعار النفط، لكنها في الوقت نفسه دفعت المتداولين والمضاربين الآخرين للبدء في النظر إلى الحاجة إلى مزيد من إمدادات النفط في السنوات المقبلة. عدد متزايد من المحللين يقول الآن إنه لجذب استثمارات جديدة، يجب أن ترتفع أسعار النفط، وربما أعلى بكثير من 50 دولارا للبرميل. في منتصف العقد الماضي، كان هناك تصور مماثل على نقص وشيك في الإمدادات ــــ وسط حديث عن "ذروة النفط" والطلب الصيني القوي ــــ الذي ساعد على دفع الأسعار إلى الارتفاع. من هذا المنظور، يتصرف المعنيون في أسواق النفط بعقلانية كبيرة ـــ كما فعلوا قبل عقد من الزمن ـــ عن طريق إرسال إشارات لإضافة طاقات إنتاجية جديدة، بدلا من انتظار حدوث الأزمة.

ولكن، تشديد أساسيات السوق سيعني المزيد من حساسية الأسعار للصدمات على المدى القصير. حجم فائض الإمدادات الكبير ساعد في التغطية على الاضطرابات الحالية في منطقة الشرق الأوسط، لكن مع تراجع الاستثمارات ــــ حتى في دول "أوبك" ــــ فإن حجم الطاقات الإنتاجية الفائضة أو إمدادات الطوارئ أصبحت منخفضة.

في هذا الوقت من العام القادم، قد لا تكون أسواق النفط مؤمنة من أي انقطاعات كبيرة، حتى مع وجود مخزونات وفيرة. لنفترض أن خسائر الإنتاج الليبي ـــ التي تقدر حاليا بـ 1.2 مليون برميل في اليوم ـــ لم تحل بعد، وفي العراق يتراجع نمو الطاقات الإنتاجية، أو حتى يتحول النمو إلى السالب، وسط استمرار ضعف الإدارة، الصراع السياسي والمخاطر الأمنية. وفي إيران، الخطط الكبيرة لفتح قطاع المنبع تتعثر، وتؤخر النمو. وفي نيجيريا، استمرار تصاعد النزاع المسلح في دلتا النيجر يوقف الإنتاج هناك. وفنزويلا قد تنهار ماليا، أو سياسيا أو كلاهما. الكثير من الأحداث الأخرى المشابهة يمكن أن تؤدي أيضا إلى تعطيل الأسواق، مثل حرائق الغابات الكندية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

في الوقت الحاضر، تقدر الطاقات الإنتاجية الفائضة لأوبك باستثناء الانقطاعات بنحو 2.5 مليون برميل في اليوم، وهو مستوى منخفض تاريخيا، ويتركز في الدرجة الأولى في السعودية. لكن مع تراجع هذه الطاقات، يصبح من الخطورة استخدامها. في عام 2004، عندما وضعت بعض التقديرات الطاقة الإنتاجية لـ "أوبك" عند مستويات متدنية قرب 500 ألف برميل في اليوم، كانت الأسعار في حينها حول 45 دولارا للبرميل. بعد أربع سنوات، وصلت الأسعار إلى ذروتها عند 147 دولارا للبرميل.

من غير المرجح أن يعيد التاريخ نفسه، لسبب واحد بسيط وهو النفط الصخري في الولايات المتحدة، الذي أعاد تشكيل الصناعة النفطية بحيث أصبحت دورة تطوير المشاريع أقصر وأسرع، ما جعل من احتمالية ارتفاع الأسعار مجددا إلى مستويات عالية لعدة سنوات شيئا من الماضي إلى حد ما. ومن الممكن أن يستجيب النفط الصخري لتحسن الأسعار بقوة متجددة، وينحسر النمو القوي في الطلب، ما يؤدي إلى فترة من تقلبات الأسعار ـــ مثلا ما بين 40 و60 دولارا للبرميل- في الوقت الذي فيه الأسواق مستمرة في تقييم الآثار المترتبة على توازنات العرض والطلب.

ولكن في ظل سيناريو بديل ـــ مشابه لارتفاع الأسعار في منتصف العقد الماضي ولكن في إطار زمني أقصر ـــ من شأن النفط الصخري أن يثبت بطأه في الاستجابة لارتفاع الأسعار، كما كان لانخفاضها، وسط نقص في التمويل، والخدمات الهندسية والقوى العاملة. مثل هذا البطء في استجابة النفط الصخري قد يدفع "أوبك" إلى استخدام طاقتها الاحتياطية المتبقية لتلبية العجز في الإمدادات إلى درجة تترك الأسواق العالمية في خطر من نقص الطاقات الإنتاجية الاحتياطية.

حتى سياسات المناخ ــــ التي من المتوقع أن تضعف استهلاك النفط وبالتالي الأسعار ــــ يمكن أن تؤدي إلى نقص في الإمدادات وارتفاع في الأسعار، إذ إن عدم اليقين بشأن الطلب على المدى الطويل قد يجعل "أوبك" وغيرها من المنتجين أقل استعدادا للاستثمار في طاقات إنتاجية قد لا تكون هناك حاجة إليها.

مع جميع هذه المتغيرات وعدم اليقين، هناك الكثير من المسارات يمكن أن تتخذها أسواق النفط، ولكن هناك شيئا واحدا مؤكدا: هو أن صعود النفط الصخري وتخلي "أوبك" عن دور المنتج المرجح أطلق العنان لفترة مستمرة من عدم اليقين والتقلبات في أسواق النفط.