راغدة درغام
معركة صعبة امام هيلاري ومزاج الاميركيين قد يأتي بترامب


مزاج الأميركيين صعب في زمن القلق على المستقبل والانزعاج من «الآخر»، والقرف من السياسيين التقليديين، والخوف من الإرهاب، والهروب إلى الأمام عندما يتعلق الأمر بتعريف الدولة العظمى ومتطلبات تلك العظَمَة على الساحة الدولية. المزاج العام يعكس اللاثقة بمرشحة الحزب الديموقراطي للرئاسة، هيلاري كلينتون، التي انصبّ مؤتمر الحزب هذا الأسبوع على محاولة إعادة تسويقها بـ «أنسنة» لعلها تدخل قلوب الأميركيين الذين لا يرتاحون إلى «ميكانيكية» المرأة التي اجتهدت وصمّمت وعكفت على إدخال نفسها التاريخ «حسابياً» غير آبهة بافتقادها الجاذبية التي حرمها الله منها وسكبها في زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون. 

إنها المرشحة ذات الخبرة المكتسبة والصعود إلى مواقع السلطة تدريجاً بتماسك وبحنكة سياسية قوامها تهذيب العلاقات مع أقطاب «المؤسسة» العسكرية والمدنية Establishment التي تحكم فعلياً في الولايات المتحدة. وهي عكس كل ما يمثله المرشح الجمهوري – رغم أنوف الجمهوريين التقليديين – دونالد ترامب الذي قفز إلى القطار المتوجه الى البيت الأبيض وسط استهزاء الطبقة السياسية، واستهتار المثقفين والمفكرين، وانصباب الإعلاميين على تغطية أخباره لأنها تسويقية ومسلية وعابرة – أو هكذا كانوا يعتقدون. 

فلقد انقلبت النكتة على الذين ضحكوا مليّاً. هكذا انتفضت الطبقة الغامضة على الطبقة التي صنّفت نفسها نخبوية لتثبت لها أن فوقيتها وتعاضدها مع «الموسسة» ليسا البوصلة الحقيقية. «غامضة» لأن اتباع دونالد ترامب مزيج من الغاضبين والخائفين، والمنزعجين من «الغريب»، والمتقوقعين، والراغبين في تلقين الدروس للسياسيين في واشنطن. هم من الطبقة الكادحة التي تتهم واشنطن بالتآمر عليها، يؤلهون ثراء دونالد ترامب كأنه كادح مثلهم علماً أنه تلقى معونة المليون دولار الأوّل من والده، ينبهرون بنجاحه المادي وإلصاق اسمه بالذهب فوق الأبنية وبزواجه بعارضات أزياء.

لكن هناك شطراً آخر من الرأي العام الأميركي في الطبقة المتعلمة الذي سيصوّت لمصلحة دونالد ترامب لأنه لا يطيق هيلاري كلينتون ويرى فيها استمراراً لحكم باراك أوباما ولا يثق فيها أو في عودة زوجها معها إلى البيت الأبيض. ثم هناك من يرفض قطعاً إصدار تأشيرة لآل كلينتون ليصبحوا سلالة حاكمة في أميركا، خصوصاً أن آل بوش تم تجريدهم من أحلام كهذه. 

اعتبارات إيصال الرئيس الخامس والأربعين إلى البيت الأبيض، إذاً، هي ذات علاقة بالشخصية والطموحات والداخل الأميركي وليس بالسياسة الخارجية، حتى الآن. الملفت أن ترامب هو الذي يقحم الأمن القومي والإرهاب والهجرة في ذهن الناخب الأميركي لاعباً على أعصابه وتوتره، وها هو هذا الأسبوع يسجّل سابقة أخرى باستدعائه روسيا الى قرصنة البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون لكشف فضائحها. فدونالد ترامب يريد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يكون ناخب «شرف» في الانتخابات الرئاسية ويغمز إليه تكراراً أنهما سيتفقان كثيراً على أكثر من مسألة. وهو يريد أن يؤجج الخوف من تنظيم «داعش» وأمثاله كي يقدّم نفسه الرئيس الذي سيغلق الأبواب أمام الهجرة ويحمي أميركا من «الغرباء» ويكون رئيساً اقصائياً للآخر يأخذ الانعزالية إلى مرتبة جديدة ومرعبة.

انعزالية باراك أوباما وإقصائية دونالد ترامب تفيدان فلاديمير بوتين لأنهما تضعانه في موقع القيادة في أكثر من مكان. الحظ يحالف بوتين منذ قرر أوباما أن ايران أولوية له لدرجة شراكة صامتة معها في سورية تحت عنوان محاربة «داعش» وأمثاله. هناك في الميدان السوري يعتلي بوتين عرش صنع القرار بعدما قرر التدخل عسكرياً للحسم العسكري – وبالتالي امتلاك أدوات الحسم السياسي. وهناك في الساحة السورية تقع شراكة صامتة بين الولايات المتحدة وبعض من ينتمي إلى «التحالف الدولي» وبين المحور الذي يضم روسيا وإيران والنظام السوري و «حزب الله» والميليشيات التابعة لإيران والأكراد. السعودية تعارض فيما الاستخبارات الأميركية والإيرانية تنسّق سرّاً في عواصم أوروبية وتتعاون خلسة في تقرير مصير سورية. وبوتين يراقب بغير ارتياح، إذ إنه لا يثق في الولايات المتحدة كمبدأ، وهو يختلف مع طهران في شأن مصير الجيش السوري وأركان النظام الذي يدعمه فيما إيران تفضّل حكم الميليشيات على نسق «الباسيج» كي تبقى أدوات التحكم في يديها.

لعل في ذهن دونالد ترامب أن يوكل إلى فلاديمير بوتين صلاحيات تمثيله في سورية، لأنه ليس مهتماً بمصير سورية وبكم تدفع روسيا ثمناً لحربها ضد «داعش» و «جبهة النصرة» وأمثالهما. ان وصفة ترامب لحماية الأراضي الأميركية والأمن القومي الأميركي من الإرهاب هي إقصاء المسلمين عن الأراضي الأميركية ومنع الهجرة إليها. إنه يلمح الى أنه يرحب بحروب الآخرين في أراضي الآخرين. فهذا آخر همّه. أما إذا تحوّلت الشراكة الاستراتيجية الروسية – الإيرانية في سورية إلى منافسة وتصادم، فهذه أخبار سارّة لترامب الذي يزعم أنه يختلف جذرياً مع باراك أوباما في شأن ايران، حيث يكاد أوباما يكون وقع في حبها بينما ترامب يوحي ويزعم أنه لا يطيقها.

هذا لا يعني أن الاستخبارات الأميركية ستتوقف عن التعاون أو التفاهم أو التنسيق سرّاً مع طهران – وهنا يدخل عنصر حكم الإدارة في واشنطن مقارنة بحكم المؤسسة التي تضم وزارات حيوية مثل الدفاع والأمن القومي والاستخبارات. الولايات المتحدة ليست مؤهلة للديكتاتورية، ولا شبه بين صلاحيات الرئيس الأميركي وتلك التي أهداها لنفسه الرئيس الروسي أو الرئيس التركي. في الولايات المتحدة مَن يشرف على ما يسمى بجردة حسابات Checks and balances عبر نظام لا يعطي صلاحيات قاطعة للهيئة التنفيذية التي تمثلها الإدارة المنتخبة ولا للهيئة التشريعية التي يمثلها الكونغرس. فللرئيس حق استخدام الفيتو على قرارات الكونغرس، والقضاء الأعلى Supreme Court يبقى سيداً في البلاد.

فإذا أصبح دونالد ترامب رئيساً، لن تنهار مؤسسة الحكم الجماعي ولن يصبح بين ليلة وضحاها رئيساً كامل الصلاحات الاستثنائية. ولكن لأي رئيس أميركي وطأة عالمية. فإذا كان اعتباطياً وانعزالياً وإقصائياً، ستهتز ركائز النظام العالمي برمتها من حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى الأمم المتحدة ووكالاتها الخاصة. وإذا كان استفزازياً جاهزاً لسحب المسدس من جيبه، فإن حال اللاإستقرار ستكون عالمية. وإذا بقي دونالد ترامب عدائياً واستفزازياً وإقصائياً واعتباطياً، فإن العالم كلّه سيدخل في متاهات جديدة غامضة بغموض حكاية دخول هذا الرجل إلى البيت الأبيض. والسيرة برمتها غريبة عنوانها ليس حصراً العملية الانتخابية الديموقراطية.

وفق ما يوحي به الآن، فإن أحد أهم عناوين السياسة الخارجية لترامب هو فلاديمير بوتين الذي يزداد الـ «دونالد» تمسكاً به. 
فبينهما ليس فقط الكراهية للإسلام السياسي وإنما أيضاً مشاريع تعاونية. والطريف أن «الإخاء» الذي يزهو في العلاقة بين وزيري الخارجية سيرغي لافروف وجون كيري (الديموقراطي) قد يميز العلاقة بين بوتين وترامب (الجمهوري) لا سيما إذا لبّى بوتين دعوة ترامب للتدخل في الانتخابات الرئاسية لمصلحته.

في أي حال، من الآن حتى تسلم الرئيس المنتخب مهماته في كانون الثاني (يناير) المقبل، سيكون بوتين نفّذ مشاريعه في سورية، مثلاً، حيث سيحسم عسكرياً معركة حلب لمصلحة محوره، بشراكة صامتة مع الولايات المتحدة وبذريعة القضاء على الإرهاب. بوتين المحظوظ سيجبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تلبية مطالبه داخل سورية – بما فيها بقاء بشار الأسد وقطع الإمدادات عن المعارضة السورية. فأردوغان في حاجة إلى بوتين الآن، وبوتين يعدّ لأردوغان قائمة مطالب منها داخل سورية ومنها في القارة الأوروبية ومنها ما يتعلق بالحركات الإسلامية داخل روسيا وفي جوارها.

فلاديمير بوتين ليس قلقاً، هذه الأيام. فإدارة أوباما تعطيه الصلاحية لرسم المستقبل السوري كما يرتأي بغض النظر عن تصريحات وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر التي تبدو متناقضة مع تلميحات زميله وزير الخارجية جون كيري الذي يستقتل لإرضاء لافروف كل مرة. هذه المرة، إن عنوان المرحلة الآتية هو الحسم العسكري ميدانياً في مناطق معينة، مثل حلب، وبدء الشراكة العسكرية العلنية الميدانية بين الولايات المتحدة وروسيا، ورسم معالم باهتة لعملية انتقال سياسي يبقى عبرها الأسد في السلطة لفترة مطوّلة بينما يتم، عملياً، إلغاء المعارضة السورية الممثلة بـ «الهيئة العليا للإئتلاف» لاستبدالها بمعارضة من صنع موسكو وشراكة ميدانية مع «قوات سورية الديموقراطية».

ونقل زائر الى موسكو عن مسؤول روسي أن الروس يفضلون ترامب رئيساً لأنه سيكون «يلتسن أميركا»، إشارة الى الرئيس الروسي السابق الذي يعتبر أحد أبرز الرؤساء الروس الذين ساهموا بتهميش دور روسيا وإكمال تفكيك الاتحاد السوفياتي.
فلاديمير بوتين قد يفضل دونالد ترامب على هيلاري كلينتون، لأنه سيستفيد أكثر من عشوائية تفكيره وآنية قرارته. لكنه لن يخشى رئاسة كلينتون لأنه يكون شق الطرق التي أراد فرضها أثناء إدارة أوباما جاهزاً للحزم. هيلاري كلينتون كانت نظيرة سيرغي لافروف وهي تتهمه بالمراوغة والعلاقة بينهما تكاد تكون عكس علاقة لافروف – كيري الحبية.

فلافروف يذكر لكلينتون دورها شخصياً في ليبيا عندما اتخذت إدارة أوباما قرار مجلس الأمن ذريعة للتدخل عسكرياً، فيما اعتبرته موسكو خيانة واستغلالاً وإهانة. وبوتين قد يكون تصالح مع أوباما، لكنه يخشى أن تكون المصالحة مع كلينتون أصعب. بوتين يذكر دعم أوباما وكلينتون لصعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وليبيا وتونس وسورية. تعايشه مع أوباما أتى عبر البوابة السورية حين قرر أوباما ترك القيادة لبوتين هناك. أما كلينتون، فإنها رقم صعب في الحسابات الروسية.

دونالد ترامب، في الرأي الروسي، حلقة أسهل من هيلاري كلينتون عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الدول الخليجية العربية. فهي قد تحاول ترميم العلاقات الأميركية – الخليجية وإصلاحها، فيما ترامب سيزيدها توتراً. روسيا راغبة في تعزيز علاقاتها الخليجية لكنها غير جاهزة أبداً لتنازلات في سورية أو في العلاقات الروسية – الإيرانية. ترى في ترامب شريكاً مواتياً في كراهيتها للراديكالية الإسلامية، وتجد فيه أيضاً استعداداً للمضي بما اعتمده أوباما ورؤساء قبله من تأجيج النيران المذهبية السنّية - الشيعية، فيما كلينتون قد ترتأي إخمادها. فروسيا بوتين أيضاً شريك في النيران المذهبية.

اللامعقول بات معقولاً، والمستبعد بات ضرورياً في الحسابات الواقعية. الرجل المزاجي البهلواني الذي بلغ السبعين قد يدخل البيت الأبيض رئيساً بلا خبرة في السياسة وصنع القرارات المصيرية والدولية. أي عملية لـ «داعش» أو أي منظمة إرهابية ذات روابط إسلامية أو عربية تقع داخل الولايات المتحدة ستضاعف من حظوظ وصول ترامب إلى الرئاسة لأن القاعدة الشعبية تتحوّل إلى انعزالية إقصائية عازمة على إغلاق الحدود – هكذا يسوّق ترامب بضاعته.

إنما يبدو فلاديمير بوتين أيضاً ناخباً أميركياً ليس فقط لأن قرصنة الرسائل الإلكترونية للحزب الديموقراطي روسية المصدر، بل لأن دونالد ترامب يستنجد به شريكاً لحجب الرئاسة عن المرأة الأولى التي قد تصل إلى البيت الأبيض.

مزاج الأميركيين قد يأتي بدونالد ترامب، ومزاجية ترامب قد توقظ الأكثرية الناخبة على أخطار رئاسة اعتباطية. أما الآن، وعلى رغم منطقية فوز هيلاري كلينتون بالرئاسة، أمامها معركة ضارية وستحتاج إلى كل من يعاونها في «الأنسنة» والجاذبية وفي استرداد الثقة التي تبقى من أهم العوامل الانتخابية للرئاسة الأميركية.