&عبدالله جمعة الحاج

ما يحدث في تركيا حالياً من حملة اعتقالات عشوائية واسعة في صفوف ضباط وأفراد الجيش ورجال القضاء وعناصر المعارضة السياسية ذات الميول غير الدينية من علمانيين ومعتدلين وغيرهم على إثر الانقلاب الذي لم ينجح لأسباب ربما تبقى مثيرة للشك والجدل والريبة لوقت طويل، يفتح الملف السياسي التركي على مصراعيه في شقه المتعلق بالصراع بين العلمانية التي تأسست عليها الجمهورية التركية القائمة، وبين أنصار استبدال أسس هذه الجمهورية وتحويلها إلى دولة دينية صرفة، وتغيير العقد الاجتماعي التركي الذي بنى عليه المؤسسون الأوائل للجمهورية دولتهم إلى عقد جديد قوامه دولة ومؤسسات سياسية تقحم الدين في السياسة، وهذا أمر له محاذيره الشديدة التي قد تصل بالمجتمع التركي إلى حرب أهلية مدمرة بدأت بوادرها تطل من خلال ما يتم حالياً من حملة اعتقالات واسعة النطاق وقمع شديد لكافة الأطراف المعارضة الأخرى بحجة إعادة الأمن والنظام والسلام والديموقراطية إلى الدولة والمجتمع.

منذ أن أتاح دستور 1982 تأسيس الأحزاب الدينية، وممارسة السياسة على هذا الأساس، تم وضع اللبنات الأولى لجعل الدين جزءاً من الحياة السياسية، بمعنى استخدام الدين لأهداف سياسية، ومنذ 1997 بات خطر الإسلام السياسي محور تركيز كل الفئات العلمانية وأيضاً المؤسسة العسكرية، لقد أخذت الأحزاب الدينية في تحسس طريقها للسيطرة على الحياة السياسية، لذلك فإنه منذ السادس عشر من يناير 1998 أمرت المحكمة الدستورية بمنع ما كان يعرف بحزب «الرفاه» من ممارسة السياسة بسبب تبنيه أجندة مضادة وقيامه بالعمل على تغيير الوضع العلماني للبلاد واستبداله بوضع آخر في إطار السعي الطويل للإسلاميين الأتراك، خاصة أولئك الذين يعكسون النسخة التركية لجماعة «الإخوان المسلمين» في العالم العربي لإقامة الدولة والحكومة الدينية في تركيا.

والواقع أن المؤسسة العسكرية والقضاء والفئات العلمانية والعناصر التقدمية الأخرى من المجتمع تعاملت بحذر شديد من البروز السريع للجماعات الدينية في الحياة السياسية. ففي حين أن العديد من أعضاء اللجنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية، بالإضافة إلى عناصر المؤسسة العسكرية، تدعم بقوة السياسات المضادة لتنفيذ الفئات الدينية في الحياة السياسية، فإن القضاء بالذات دخل في جدل مطول حول إمكانية ظهور ردود أفعال قوية ومخاطر على الدولة والمجتمع من استفحال دور الأحزاب الدينية في الحياة السياسية وشؤون المجتمع، ورغم أن ظاهرة موجة المد الديني لا تبدو بأنها بنفس الزخم الظاهر في العالم العربي وإيران، إلا إنه توجد خشية مستمرة من أن التكتيكات التي يتبعها الإسلاميون الأتراك ستفضي إلى سيطرتهم في نهاية المطاف، ويبدو بأنه يوجد اعتقاد لدى مراقبي الشأن التركي، بأن تلك هي الحالة الحقيقية فيما يتعلق بالتعامل مع حركة المد الديني في تركيا، وذلك على ضوء تداعيات الانقلاب الرابع الذي حدث.

والمحير في الأمر أن وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في تركيا شكّل فرصة لها لكي تستفيد من جهود التنمية التي بذلتها الحكومات السابقة لعهدهم، ويقوموا بنسبتها إليهم، فمنذ بداية تأسيس الجمهورية عام 1923 مرت البلاد بتحولات متسقة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، جعلت من تركيا دولة وطنية علمانية حديثة حدودها الإقليمية تتكون من هضبة الأناضول أساساً التي تشكل أرض الأتراك ومهد ظهورهم كأمة، لقد أصبحت الجمهورية العلمانية الجديدة ذات هوية قومية ووطنية قوية يعتز بها الأتراك كثيراً منذ قيامها، فخلال الثمانين عاماً التي خلت مر الشعب التركي بمسار ممتد من التنمية والإصلاحات التي جعلته شعباً متعلماً وناهضاً وذا هوية خاصة ومتميزة، وجاء الإسلاميون إلى السلطة لكي يجنوا ثمرات ذلك وينسبوه إلى أنفسهم وكأن بيدهم وحدهم عصا سحرية حققت ذلك متناسين ما قامت به الأجيال والحكومات التي سبقتهم، وللحديث صلة.